إسلام الغمري خاص اخبار تركيا

منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد وما أحدثته من تغييرات عميقة في البنية السياسية للمنطقة، لم يكن المشروع الإسرائيلي منصبًا فقط على ردع إيران أو إضعاف محور المقاومة، بل كان أبعد من ذلك بكثير. فقد استهدف في جوهره تصفية كل حالة سياسية عربية مستقلة، وإلغاء أي هامش يسمح بوجود أدوار مغايرة خارج المظلة الإسرائيليةالأمريكية. تلك الحالة التي سمحت بظهور أدوار فاعلة لدول صغيرة في الحجم كبيرة في التأثير مثل قطر، التي تحدّت قواعد اللعبة ونسجت لنفسها طريقًا مختلفًا.

واليوم، تتحرك إسرائيل بخطى متسارعة نحو مرحلة جديدة هي الأخطر منذ تأسيسها، مرحلة يمكن وصفها بـ”التصفية الكبرى”. ففي هذه المرحلة لم يعد هناك مجال للمناورات السياسية ولا مكان للدبلوماسية التقليدية. المنطقة تُدفع دفعًا إلى معادلة ثنائية حادة: إما الانخراط الكامل في مشروع إسرائيل الكبرى، وإما الإقصاء التام والتصفية الكاملة لكل من يخرج عن النص.

قطر كنموذج مستهدف

لقد برزت قطر خلال العقود الماضية بوصفها نموذجًا سياسيًا وإعلاميًا مختلفًا. فهي وإن كانت صغيرة المساحة محدودة الموارد البشرية، فإنها استطاعت أن تعوض ذلك عبر بناء أدوات تأثير متشعبة وفعالة.

• فقد لعبت دورًا بارزًا في الوساطات بين الأطراف المتنازعة، وساهمت في رعاية اتفاقيات تهدئة، وكان لها حضور ملموس في إدارة أزمات معقدة داخل المنطقة وخارجها.

• كما أنها، في ذروة الربيع العربي، كانت من أبرز الداعمين لتطلعات الشعوب، وهو ما وضعها في مواجهة غير مباشرة مع المشروع الإسرائيلي الذي كان يفضّل بقاء الأنظمة الخانعة.

• أما في المجال الإعلامي، فقد تحولت شبكة الجزيرة إلى منصة عالمية قادرة على منافسة كبريات وسائل الإعلام، وفرضت الرواية العربية والإسلامية في مواجهة محاولات التزييف الإسرائيلية.

هذه الأدوار جعلت من قطر حالة خاصة ومصدر إزعاج لإسرائيل، التي تنظر إليها باعتبارها نموذجًا سياسيًا لا يمكن السيطرة عليه بسهولة، وقوة ناعمة تعيد التوازن للرواية الفلسطينية وتكسر أحادية الصوت الإسرائيلي في الغرب. من هنا، جاء العدوان الإسرائيلي الأخير على قطر ليؤكد أن الهدف ليس مجرد الضغط أو الرد على موقف سياسي، بل محاولة شاملة لشطب النموذج القطري وإلغائه من الأساس. إنه تهديد وجودي بكل المقاييس، أخطر من حصار عام 2017 لأنه يتجاوز الحصار الاقتصادي والسياسي إلى محاولة اقتلاع الدور القطري من جذوره.

التداعيات الإقليمية

ما يحدث مع قطر لا يمكن عزله عن السياق الأشمل، فهو انعكاس لتحول استراتيجي في سياسة إسرائيل تجاه المنطقة. ومن أبرز التداعيات التي يمكن قراءتها:

1. تصفية الأدوار المستقلة: أي محاولة لدولة عربية أو إسلامية لتبني سياسة خارج المشروع الإسرائيلي ستُواجَه بالتصفية والإقصاء.

2. إلغاء الدبلوماسية التقليدية: ما يجري يعلن عمليًا نهاية زمن الوساطات والحلول السياسية، لصالح هيمنة السلاح والابتزاز بالقوة.

3. إعادة تشكيل الخليج: العدوان على قطر هو رسالة تحذير واضحة لبقية دول الخليج: إمّا أن تنخرطوا بالكامل في مشروع “إسرائيل أولًا”، أو تنتظروا مصيرًا مشابهًا.

التهديد الوجودي لقطر

إن التهديد الإسرائيلي لقطر لا يتوقف عند الجانب العسكري أو الأمني، بل يتعداه إلى محاولة تقويض مكانتها السياسية والاقتصادية والإعلامية.

• هناك مساعٍ مستمرة لإلغاء دورها كوسيط فعال في النزاعات، وإفقادها القدرة على التأثير.

• كما تُستهدف قوتها الناعمة عبر التضييق على الإعلام القطري، وفي مقدمته شبكة الجزيرة.

• والأخطر هو محاولة فرض واقع جديد يجبرها على الخضوع لمعادلة إسرائيلية صلبة، بحيث تصبح أي استقلالية في القرار القطري أمرًا مستحيلًا.

لكن في المقابل، لا يمكن تجاهل ما اكتسبته قطر من خبرات. فهي نجحت في النهوض من تحت رماد الحصار عام 2017، وخرجت من تلك الأزمة أكثر صلابة، بعد أن طورت أدواتها السياسية والإعلامية والاقتصادية. كما أنها نسجت شبكة علاقات إقليمية ودولية واسعة لا يستهان بها، مما يجعل استهدافها اليوم أكثر تعقيدًا مما تتصور إسرائيل. فالتجربة السابقة أكسبت الدوحة خبرة هائلة في إدارة الأزمات والتعامل مع الضغوط، وهو ما يعزز قدرتها على مواجهة التهديد الراهن.

سيناريوهات الرد القطري المحتملة

1. الرد الدبلوماسي والتحالفات السياسية

من المتوقع أن تسعى قطر إلى تفعيل قنواتها الدبلوماسية على أوسع نطاق، عبر الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية. كما أنها ستعتمد على تحالفاتها الاستراتيجية مع تركيا وإيران ودول الجنوب العالمي. هذه التحالفات يمكن أن تشكل شبكة ردع سياسية تقيها من الانفراد بها.

2. القوة الناعمة والإعلام

الإعلام سيبقى السلاح الأكثر تأثيرًا بيد قطر. فالهجوم الإسرائيلي يمكن أن يتحول إلى منصة جديدة لإبراز الوجه الاستعماري لإسرائيل وتعريته أمام العالم. قدرة الإعلام القطري على الربط بين العدوان على الدوحة والعدوان على غزة والقدس ستجعل القضية القطرية جزءًا من قضية الأمة، وهو ما يضاعف كلفة المشروع الإسرائيلي.

3. الدفاع غير المباشر

حتى وإن لم تدخل قطر في مواجهة عسكرية مباشرة، فإنها تستطيع أن تُعزز دعمها السياسي والإنساني للمقاومة، وأن توفر مساحات أوسع للأصوات الرافضة للمشروع الإسرائيلي. هذا النوع من الدفاع غير المباشر سيحوّل العدوان إلى حرب استنزاف طويلة المدى بالنسبة لإسرائيل.

4. الاقتصاد والطاقة

تلعب قطر دورًا مركزيًا في سوق الغاز الطبيعي المسال، وهي ورقة ضغط لا يمكن إغفالها. إذ تستطيع الدوحة استخدام هذا السلاح الاقتصادي لإعادة توازن المعادلة، خصوصًا تجاه الغرب الحليف لإسرائيل. كما أن شبكة الاستثمارات القطرية حول العالم تمثل خط دفاع اقتصاديًا متينًا ضد أي محاولة لعزلها أو حصارها.

خاتمة

إن العدوان الإسرائيلي على قطر ليس حدثًا عابرًا، بل هو فصل جديد في مشروع استعماري يسعى لإعادة صياغة المنطقة تحت هيمنة إسرائيل. غير أن قطر، بتاريخها وتجاربها، ليست في موقع الضحية المستسلمة، بل في موقع الدولة التي اختبرت النار وخرجت أصلب عودًا. لقد نجحت في الماضي أن تنهض من تحت رماد الحصار، واستطاعت أن تحوّل التهديد إلى فرصة لتعزيز حضورها الإقليمي والدولي.

اليوم، تجد الدوحة نفسها أمام أخطر لحظة منذ استقلالها، لكنها ليست بلا أوراق. فشبكة التحالفات التي بنتها، وقوة إعلامها، ومكانتها الاقتصادية، كلها تمنحها القدرة على الصمود وتحويل معركة البقاء إلى معركة إثبات ذات.

إنها معركة وجود حقيقية، لكنها أيضًا فرصة لتأكيد أن الشعوب الحرة والدول المستقلة قادرة على الصمود في وجه أخطر التهديدات. فإسرائيل تريد التصفية، لكن قطر تحمل في رصيدها خبرة الصمود، ومعادلة البقاء التي تجعلها جديرة بتجاوز هذا التحدي التاريخي.

عن الكاتب


شاركها.