اخبار تركيا
تناول مقال للكاتب والأكاديمي التركي أحمد أويصال، ظاهرة الرياضة من منظور سوسيولوجي، مركزًا على كرة القدم بوصفها ممارسة اجتماعية تتجاوز حدود الترفيه إلى أدوار ثقافية وسياسية واقتصادية.
يناقش المقال تطور سوسيولوجيا الرياضة كحقل علمي يسعى إلى فهم العلاقة التبادلية بين الرياضة والبُنى الاجتماعية والهوية والسلطة. وفي هذا السياق، يقدّم الكاتب كأس العرب 2025 في الدوحة نموذجًا حيًا للدبلوماسية الرياضية، حيث أسهمت البطولة في تعزيز الوعي الجمعي العربي وبعث روح التضامن.
ويخلص أويصال إلى أن الرياضة، رغم ما تحمله من تناقضات، تظل أداة فاعلة في بناء الهوية المشتركة وتخفيف حدة الانقسامات، حين تتوافر لها السياقات السياسية والثقافية الداعمة. وفيما يلي نص المقال الذي نشرته صحيفة الشرق القطرية:
يُعَدّ علم الاجتماع، بوصفه علمًا معنيًا بدراسة الحياة الاجتماعية، مجالًا تتفرّع عنه اختصاصات حديثة، من أبرزها سوسيولوجيا الرياضة، التي نشأت استجابة لتحوّل الرياضة إلى ظاهرة اجتماعية بارزة في المجتمعات المعاصرة. وقد دفع هذا التحوّل الباحثين إلى دراسة الرياضة من منظور اجتماعي وثقافي واقتصادي وسياسي، بعيدًا عن التركيز الحصري على جوانبها البدنية أو التقنية. وتهدف سوسيولوجيا الرياضة إلى تحليل التفاعلات الاجتماعية الة بالممارسة الرياضية، والمعاني الرمزية التي تُحمَّل لها، والعلاقات بين الجماعات، إضافة إلى أبعادها السياسية، كما تسعى إلى فهم تأثير الثقافة والبُنى الاجتماعية والسياسية في الرياضة، وفي المقابل دور الرياضة في تشكيل مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية.
يُمكن النظر إلى الرياضة من منظورٍ وظيفي بوصفها انعكاسًا للمجتمع الذي تنتمي إليه، إذ تسهم في ترسيخ القيم الجماعية، والتخفيف من حدة التوتر الاجتماعي، وبناء شعورٍ مشترك بالهوية والانتماء. ورغم أن ممارسة الرياضة تتركز بدرجة أكبر بين فئة الشباب، فإنها تستقطب جمهورًا من مختلف الأعمار، كما تمثل بديلًا إيجابيًا يساهم في إبعاد الشباب عن العديد من السلوكيات السلبية. وإلى جانب ذلك، تؤدي الرياضة والأنشطة البدنية دورًا أساسيًا في تعزيز الصحة الفردية والارتقاء بمستوى الرفاه الاجتماعي.
من الناحية الاجتماعية، تدعم الرياضة قيم العمل الجماعي، والتفاعل الاجتماعي، والتعاون، والانضباط والتنسيق، كما تسهم في نقل التقاليد الثقافية إلى الآخرين وتعزيز الهوية الوطنية. أمّا من الناحية الاقتصادية، فقد بلغ تأثير الرياضة مستويات بالغة الأهمية؛ إذ يُقدَّر حجم الاقتصاد العالمي لكرة القدم بما يتراوح بين 250 و300 مليار دولار، في حين تُقدَّر قيمة السوق العالمية لكرة السلة بنحو 25 مليار دولار، إلى جانب قطاعات رياضية كبرى أخرى مثل التنس، والكرة الطائرة، والكريكت، وكرة القدم الأمريكية. وتستقطب هذه القطاعات أعدادًا هائلة من العاملين، حيث تُشير بعض التقديرات إلى أن قطاع كرة القدم وحده يوفر فرص عمل لما بين 40 و50 مليون شخص حول العالم.
تشكّل كأس العرب 2025 المقامة في الدوحة حدثًا ذا دلالات مهمة من جوانب متعددة. فقد نجحت دولة قطر، التي كانت قد نظّمت كأس العالم 2022 بنجاح كبير، في تمثيل الثقافة الإسلامية والعربية بصورة مشرّفة في هذه المناسبة أيضًا. وحتى الدول العربية التي سبق أن وجّهت انتقادات لقطر، عبّرت عن فخرها بالنجاح الذي حققته البطولة. ومن هذا المنطلق، مثّلت البطولة نموذجًا بارزًا لما يُعرف بـ الدبلوماسية الرياضية. كما أن تنظيم كأس العرب في قطر مرة أخرى، عقب استضافتها لفعاليات رياضية كبرى أخرى، جاء في سياق لافت ومهم، ما أضفى على الحدث بُعدًا خاصًا وأهمية إضافية.
في سياقٍ إقليمي مثقل بالأزمات، تتقدّمها المجازر في غزة وما تشهده السودان ومناطق أخرى من توترات، وما خلّفته هذه التطورات من حزنٍ عميق في الوجدان العربي، برزت كأس العرب كفسحة أمل ومنفذٍ للفرح لدى الرأي العام. فعلى الرغم من التباينات السياسية بين الدول، نجحت كرة القدم في صياغة إحساسٍ جمعي ووعي عربي مشترك. وقد حظي المنتخب الفلسطيني بمكانة رمزية لافتة، إذ جرى التعامل معه بوصفه نجم البطولة، وتلقّى التصفيق في جميع مبارياته، بما في ذلك من جماهير الفرق المنافسة. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن كأس العرب أسهمت في إعادة إحياء روح تضامن عربية متجددة حول القضية الفلسطينية، وعزّزت في الوقت ذاته شعورًا عامًا بالوحدة العربية.
لطالما أدّت الأندية الرياضية، ولا سيما المنتخبات الوطنية، دورًا مهمًا في ترسيخ الوحدة الوطنية وبناء الهوية المشتركة، حيث تُعدّ الأناشيد الوطنية والأعلام من أبرز رموز التعبير عن الانتماء الجماعي، كما يُظهر التاريخ أن بعض الأندية تجاوزت المجال الرياضي لتسهم في رفع الوعي السياسي بل وحتى في الحشد والتنظيم، كما في تجربة رابطة الألعاب الغيلية في أيرلندا والنادي الأهلي في مصر خلال مواجهة الاستعمار البريطاني، وهو ما تجلّى أيضًا في كأس العرب من خلال تركيز المعلّقين الرياضيين على معاني الوحدة العربية، وظهور مشاهد من الشارع جمعت أفرادًا من المشرق والمغرب حول لغة مشتركة وإحساس جمعي واحد.
كما أظهرت منصّات التواصل الاجتماعي مستوى ملحوظًا من التضامن داخل دول الخليج والمشرق والمغرب العربي، ومع الاستثناء الواضح لصالح فلسطين، كان من الطبيعي أن يتمنّى الناس فوز منتخبات مناطقهم الجغرافية، وهو سلوك مفهوم في سياق التشجيع الرياضي. ومع بقاء المغرب المنتخب الوحيد من شمال إفريقيا، يمكن أن تتحوّل مبارياته إلى عامل إيجابي قد يُسهم في تهدئة التوتر القائم بين المغرب والجزائر. ورغم أنّ الرياضة، بوصفها ظاهرة اجتماعية، لا تخلو من بعض الجوانب السلبية، فإن كأس العرب حتى الآن برزت أساسًا بأبعادها الإيجابية، مع التمنّي بأن يستمر هذا الزخم البنّاء.
