اخبار تركيا

تناول مقال للكاتب والمفكر التركي سلجوق تورك يلماز، منهجية «التحريض الكامل» بوصفها أداة إستراتيجية اعتمدها الكيان الصهيوني، بدعم غربي، لاستدراج الخصوم إلى المواجهة في لحظات ضعفهم، مع الحفاظ في الوقت ذاته على صورة «الضحية» في الوعي الغربي.

يحلّل الكاتب في مقاله بصحيفة يني شفق تطبيقات هذه المنهجية في فلسطين، وتركيا خلال تسعينيات القرن الماضي، وصولًا إلى أحداث السابع من أكتوبر 2023 وتداعياتها الإقليمية، ولا سيما في سوريا.

ويخلص إلى أن هذه المنهجية، التي نجحت لعقود في إعادة تشكيل الشرق والغرب، واجهت لأول مرة فشلًا بنيويًا بعد غزة، ما أدى إلى انكشاف حدود التفوق الصهيوني وتآكل الرواية الغربية التي طالما وفّرت له الغطاء السياسي والأخلاقي.

وفيما يلي نص المقال:

إن منهجية “التحريض الكامل” التي تناولناها في المقال السابق لم تقتصر تطبيقاتها على فلسطين والدول المجاورة لها فحسب؛ فبحسب تصنيف عام، نجد أن لهذا الأسلوب وجهين متمايزين يطلان في آن واحد على العالم الإسلامي والعالم الغربي. لقد عمد مهندسو هذا المنهج إلى استدراج الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمكونات الأخرى في الدول المجاورة إلى الحرب في لحظة ضعفهم، حيث تحرك الصهاينة مدفوعين بإيمان مطلق بتفوقهم الساحق القادر على إلحاق الهزيمة بالطرف الآخر.

وفي الوقت نفسه، ونظرا لتحرك الصهاينة ضمن هيكلية أرست قواعدها بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا في شرق المتوسط، فقد حرصوا على ترسيخ قناعة لدى الرأي العام الغربي مفادها أن إسرائيل مجرد كيان يحاول الحفاظ على بقائه وسط محيط معادٍ. وبينما كانوا يتصرفون انطلاقًا من اعتقادهم بامتلاكهم قوة ساحقة تجاه الفلسطينيين ودول الجوار، حرصوا في الوقت ذاته على إبقاء صورة “اليهودي المظلوم” حية في الوعي الغربي. وهكذا، نجحت إستراتيجية “التحريض الكامل” في مخاطبة كلا الجانبين؛ إذ كانت هناك كتل جماهيرية مهيأة سلفاً عبر الوسائل الإعلامية لتبني الرواية الإسرائيلية، وما دام الصهاينة يتحرّكون ضمن مناطق النفوذ البريطانية والأمريكية والألمانية، فقد جرى دائمًا تمهيد الأرضية لهم.

وقد حقّق الكيان الصهيوني نتائج ناجحة للغاية في تركيا، ولا سيما خلال تسعينيات القرن الماضي، عبر أسلوب “التحريض الكامل”. لورغم غياب التبعية الفعلية المباشرة لتركيا تجاه بريطانيا وأمريكا وألمانيا، إلا أن المجموعات التي تدور في فلك نفوذ هذه الدول كانت تمتلك مساحة مناورة واسعة في الداخل التركي. وفي تلك المرحلة جرى تضييق مفهوم «الإسلامي» إلى حدٍّ كبير، ووُسم من يعمل ضمن هذا الإطار بالإرهاب. وآنذاك، كانت الساحة مفتوحة على نطاق واسع أمام النشاط الصهيوني في العالم الإسلامي، حيث جرى، عبر عمليات دقيقة، تصفية جميع الشخصيات القادرة على الوقوف في وجه الغرب واحدة تلو الأخرى. وفي الوقت ذاته بدأت تنظيمات أعادت تعريف نفسها ضمن مجال النفوذ الغربي مثل تنظيم “غولن” الإرهابي في البروز كجهات فاعلة غير تابعة للدولة.

لقد كان نمو هذه الكيانات غير الحكومية في المساحات التي فتحتها إستراتيجية “التحريض الكامل” أمراً بالغ الأهمية، حيث احتدم الصراع بين ما سُمي بـ “المسلم الجيد والمسلم السيئ”. وحصلت الجماعات التي قدمت تصريحات قوية تؤكد عدم انتمائها للفكر “الإسلامي” على قدر كبير من القوة والنفوذ. وبتحالفها مع المحور البريطاني الأمريكي، أعادت إسرائيل تشكيل الشرق والغرب معاً عبر هذا الاستفزاز الممنهج.

ولم تكن الساحة السياسية في تركيا خلال النصف الثاني من التسعينيات بمنأى عن هذا التأثير؛ إذ أُنهيت حقبة نجم الدين أربكان باستخدام أسلوب “التحريض الكامل”، حيث أُدرجت كل خطوة جرى اتخاذها ضمن خانة “الشريعة”، وتمّ تحريض الرأي العام على أربكان. وفي نهاية المطاف خرجت الجماعات العاملة ضمن مناطق النفوذ البريطاني والأمريكي والألماني منتصرة من هذا الصراع.

من المرجح أن الأجيال القادمة حين تعود بذاكرتها إلى الوراء، ستُقيم أحداث السابع من أكتوبر 2023 ضمن إطار استراتيجية “التحريض الكامل” الإسرائيلية. لقد كان الحصار الخانق والمستمر الذي فرضته إسرائيل على غزة يحول حياة الفلسطينيين إلى جحيم خانق؛ ولم يكن من قبيل المصادفة أن يختار المؤرخ “إيلان بابيه” لكتابه عن غزة عنوان “أكبر سجن في العالم”. لقد عاش أهل غزة في قلب حالة من “الاستفزاز المتقن” الدائم. وفي الوقت الذي تخلت فيه دول الجوار تماماً عن فلسطين، والذي بدا فيه الجيران العرب بصدد التوصل إلى اتفاقات مع بريطانيا والولايات المتحدة لتصفية القضية الفلسطينية لصالح الصهيونية عبر “حل نهائي”، وُضعت اللبنات الأساسية لبيئة تُجبر الفلسطينيين على إخلاء غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية.

لقد أدرك يحيى السنوار ورفاقه هذا المخطط، فجاء ردهم غير متوقع متجاوزين كل الحسابات. لقد قاموا بالحراك الذي كان يُراد لهم القيام به وفق”التحرض الكامل”، لكنهم نجحوا في الوصول به إلى أبعاد غير متوقعة، متمكنين بذلك من الخروج عن قواعد اللعبة التي رسمها الخصم. وأرى أن انهيار المشروع الصهيوني بدأ من هذه النقطة؛ إذ فشلت المنهجية لأول مرة في تاريخها. فلم يتوقع أحد أن تفقد إسرائيل سيطرتها بهذا الشكل، مما أدى إلى انكشاف كافة نقاط ضعف هذه المنهجية والنظام الغربي الداعم لها على حد سواء.

وينبغي إدراج انتصار الثورة السورية في 8 كانون الأول/ديسمبر ضمن السياق نفسه. فمنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 لم يتمكّن الصهاينة من تحقيق أيّ هدف من الأهداف التي أعلنوا عنها، كما أخفقوا في إدراك مسار تطوّر الثورة السورية خلال تلك الفترة. وبعد كانون الأول/ديسمبر، فإن قصفهم سوريا لأيام متتالية، وعلى مرأى من العالم، في إطار “التحريض الكامل”، لم يكن سوى دليل على خروجهم عن السيطرة. لقد أرادوا جرّ الحكومة السورية إلى حرب في أضعف حالاتها، وكان ذلك بدوره “تحريضا كاملا”. بيد أنّ الإدارة الجديدة لم تمنح إسرائيل ما أرادته. ومن المرجّح أنّها ستتحرّك في التوقيت الذي تحدده هي. وبهذا، فشل الصهاينة مجددا في تسويق رواية “المظلومية” المعتادة وشرعنة عدوانهم أمام الرأي العام العالمي.

شاركها.