اخبار تركيا

تناول مقال تحليلي للكاتب والباحث السياسي علي باكير، استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لعام 2025 بوصفها إعلانًا غير مباشر عن تحوّل جذري في رؤية واشنطن للعالم، وانتقالها من قيادة النظام الدولي القائم على العولمة والقانون الدولي إلى سياسة براغماتية صدامية تقوم على كسر القواعد التي أسستها بنفسها.

يحلل باكير في مقاله بصحيفة “عربي21” كيف تعكس الوثيقة شعورًا أمريكيًا متناقضًا بين إنكار التراجع ومحاولة إدارته، مع تركيز شبه كامل على احتواء الصين، وتراجع الاهتمام بالشرق الأوسط وأفريقيا، واستمرار الدعم غير المشروط لإسرائيل.

كما يربط بين مضمون الاستراتيجية والانقسام الداخلي الأمريكي العميق، معتبرًا أن هذه الوثيقة لا تعيد تعريف الأمن القومي فحسب، بل تكشف أيضًا عن أزمة بنيوية تهدد موثوقية الولايات المتحدة واستقرار النظام الدولي برمّته. وفيما يلي نص المقال:

شهد الشهر المنصرم نشر استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي تعكس رؤية الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة ترامب لمصالح وأهداف الولايات المتّحدة المتعلقة بالأمن القومي. تعبّر استراتيجية العام 2025 عن تحوّل جذري في رؤية واشنطن للعالم وفي السياسة الأمريكية الخارجية والاقتصادية والدفاعية. وتُعدّ هذه الوثيقة خروجًا عن الأطر المتعارف عليها للعولمة والقانون الدولي والأعراف السائدة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية والتي وضعتها واشنطن مع حلفائها الغربيين آنذاك.

العبرة الأساسية أنّه بعد أنّ تمّ استنفاذ هذه القواعد والقوانين والأعراف لصالح الغرب خلال العقود الماضية، لم تعد تحقق المصالح المرجوّة لهذا المعسكر، كما أنّها لم تعد قادرة على كبح منافسي الولايات المتّحدة، لذلك قررت واشنطن بكل بساطة ضربها بعرض الحائط والعمل بخلافها دون استحياء أو عذر. لذلك، مفهوم التجارة الحرّة مثلا او العولمة تم انتقاده في الوثيقة لا بل تحميله المسؤولية عن تدهور وضع الولايات المتّحدة والامريكيين!

تدعو الوثيقة إلى تقاسم الأعباء بين الحلفاء، وفرض رقابة صارمة على الحدود كضرورة للأمن القومي، وإبرام اتفاقيات تجارية ثنائية، وترفض حث الدول الأخرى على تبني “تغيير ديمقراطي أو اجتماعي آخر يختلف اختلافاً كبيراً عن تقاليدها وتاريخها”. وعلى الرغم من أنّها تدعو إلى الحدّ من التدخّل في النزاعات الهامشية، إلا أنّها تتبقى سياسة تقليدية تجاه حماية إسرائيل، الأمر الذي يتعارض مع ما تذهب إليه بخصوص جرّها إلى نزاعات إقليمية ودولية، بدليل موقف الإدارة من حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة.

بخلاف استراتيجية 2022، لا تخص وثيقة هذا العام الصين باعتبارها التحدي الأكبر للولايات المتحدة، وإنما تؤطر العلاقة معها بشكل شبه حصري بمصطلحات اقتصادية ممّا يخلق انطباعاً بأنّ الخلاف هو ذو طابع اقتصادي فقط وأنّ المشكلة هي مشكلة خلل في الميزان التجاري يحتاج إلى حل عادل. تتحاشى الوثيقة ذكر كوريا الشمالية تماماً، كمّا أنّها تولي أهمية قليلة لانتقاد روسيا أو اعتبارها تحدّياً أو تهديداً. تذكر الوثيقة أن الولايات المتحدة لم تعد بحاجة إلى إعطاء الأولوية للشرق الأوسط بسبب تنوع إمدادات الطاقة، والتي كانت “السبب التاريخي” لتورط أمريكا، كما تقول إنه يجب على الولايات المتحدة التوقف عن توبيخ حلفائها في الشرق الأوسط.

تُقدّم الوثيقة ما يمكن تسميته بملحق ترامب لمبدأ مونرو، بهدف منع الخصوم الأجانب من ترسيخ وجودهم العسكري أو الاقتصادي في الأمريكتين. وتدعو الاستراتيجية إلى إنهاء الحرب الأوكرانية عبر المفاوضات لاستعادة الاستقرار، وتحثّ على إنعاش القدرة التنافسية الصناعية الأوروبية، وتركز على احتواء إيران، مع توجيه الجهود نحو الاستثمار في الذكاء الاصطناعي والطاقة. وفي هذا السياق، تقترح الاستراتيجية الانتقال من نموذج المساعدات الخارجية إلى نموذج التجارة والاستثمار، مع التركيز بشكل خاص على الوصول إلى المعادن وموارد الطاقة الحيوية.

وبخلاف ذلك، يوجد عدد من الملاحظات المتعلقة بالوثيقة، من بينها:

أولاً ـ الاستراتيجية تؤكد من حيث لا تريد أنّ الولايات المتّحدة قوّة في تراجع، وهي حقيقة ندركها في المنطقة منذ أكثر من 20 عاماً، لكنّ الأمريكيين ـ لاسيما أوساط النخبة وصنّاع القرار ـ لا يرون ذلك ولا يودّون الاعتراف به. بعضهم يعتقد أنّه إذا كان هناك تراجع، فهو تراجع مؤقت وظرفي، وباستطاعة الولايات المتّحدة تجاوزه والحفاظ على موقعها كأقوى قوّة في العالم. هذا الانكار لدى هذه الأوساط مرّده أنّهم يعيشون في قوقعة أو في فقّاعة يتم تغذيتها بالتفكير بالتمن،ي وبالشعور غير الواقعي بالقوّة والعظمة المطلقة. وبالرغم من أنّ الوثيقة تروّج لنفسها على أنّها واقعية، إلا أنّها لا تخرج بالمجمل عن ذلك.

ثانياً ـ عطفاً على الشعور غير الواقعي بالقوة والعظمة المطلقة، وعلى الرغم من التراجع في قوة ودور ونفوذ الولايات المتّحدة على المستوى العالمي ـ مقارنة بما كان عليه الأمر بعيد انهيار جدار برلين، وانهيار الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينيات ـ ، فإنّ الاستراتيجية المذكورة تعطي الانطباع بأنّ أمريكا دولة من الفضاء الخارجي تنظر الى الدول الأخرى في مستوى دوني. العنوان الرئيسي الوارد في الصفحة الخامسة “ماذا نريد في و/ من العالم” يعطيك فكرة عن هذا الأمر!

ثالثاً ـ الاستراتيجية لا تختلف بشكل جذري عمّا سبقها لناحية الشكل والمضمون فحسب، وإنما تطعن في الاستراتيجيات السابقة وفي الأهداف التي وردت في تلك الاستراتيجيات. هذا التضارب في التوجهات والطريقة والأسلوب ليس عارضاً، ولا يرتبط بحقيقة تغيّر الإدارات بين جمهورية وديمقراطية، وإنما هو انعكاس للإستقطاب والانقسام العميق داخل المجتمع الأمريكي على المستويات الاجتماعية والإقتصادية والسياسية والأيديولوجية. هذا الاستقطاب سيستمر على الأرجح إلى فترة ليست قليلة وقد يسرّع من وتيرة التدهور الأمريكي لاحقاً، وربما يتسبب باقتتال داخلي مستقبلاً. على المستوى الخارجي، يعكس هذا الاستقطاب والانقسام صورة سلبية عن أمريكا ليس فقط كقوة في تراجع، وإنما كدولة غير موثوقة، وغير مستقرة، وذات سياسات متقلّبة بشكل سريع وبشكل يترك تأثيرا مدمّراً على الاستقرار العالمي كما على الحلفاء والأصدقاء.

رابعاً ـ صحيح أنّ الوثيقة تحاشت تصوير الصين كعدو أو منافس، وتجنّبت الإشارة إليها كثيراً كي لا تبدو أمريكا متوترة من هذا التنافس، إلا أنّه يمكن استنباط أنّ الاستراتيجية مخصّصة بشكل شبه كامل لمواجهة الصين. حتى في العناوين والمضامين التي تبدو بعيدة عن هذا الموضوع، يمكن للقارئ أنّ يدرك أنّ الهدف من معظم الإجراءات هو منع الصين من تصدّر العالم والتحضير لمواجهتها من موقع القوّة إذا لزم الأمر.

الجزء المخصص من الوثيقة لأوروبا هو حوالي صحفتين ونصف، أمّا المخصص للشرق الأوسط بأكمله فهو أقل من صفحة ونصف. وفيما يتعلق بالجزء المخصص لأفريقيا برمّتها فهو حوالي نصف صفحة، وفي هذا الأمر دلالة تدعم ما تم الذهاب إليه سابقاً حيث إستحوذ القسم المخصص لآسيا بالجزء الأكبر.

شاركها.