اخبار تركيا

كيف ينبغي للمسلم أن ينظر؟..

ياسين أقطاي يني شفق

رغم أننا نحيا في عالم واحد، ونعيش الأحداث ذاتها، إلا أن اختلاف نوايانا ونظرتنا للأمور هو ما يصنع التمايز بيننا. وهذا الاختلاف غالبًا ما يعجز الناظرون من الخارج عن إدراكه. فأن تنظر إلى الحياة بعين المسلم هو في المقام الأول نية، إنهغ نية توجّه صاحبها إلى السلوك وفق مقتضيات الإسلام. وهذه النية ليست قابلة للتجزئة في حياة المسلم؛ إذ يُعدّ المسلم مسلمًا بقدر ما يحرص على أن يجري جميع أفعاله وفق المبادئ الإسلامية. فلا يمكن للمسلم أن يُولي اهتمامًا بأن يكون مسلمًا في بعض شؤونه، ثم يتصرف في شؤون أخرى كأي إنسان آخر دون اعتبار للمرجعية الإسلامية. نعم، قد يغفل المرء أحيانًا عن التأمل في معنى التصرف كمسلم، أو قد يقع في المعصية ويخرق القواعد، لكن هذه الغفلات والانتهاكات تُعد حالات عارضة واستثنائية لا تخرق القاعدة الأصلية. وتتمثل هذه القاعدة في حرص المسلم على مطابقة كل ما يقوم به مع تعاليم الإسلام.

وعليه، فإن أي نقاش حول المسارات التي آل إليها الفكر الإسلامي مؤخرًا أو مسار العلمانية، يظل عاجزا عن رؤية الحقيقة أو بلوغ الفهم ما لم تنطلق من هذا المنظور، ويمكن للمسلمين اليوم أن يختبروا أنفسهم من خلال سؤال جوهري: إلى أي مدى يولون أهمية لمطابقة أعمالهم، واختياراتهم، وسلوكهم، وعلاقاتهم، وصداقاتهم، وعداواتهم، لتعاليم الإسلام؟ وإلى أي مدى يوجّههم هذا السؤال في حياتهم اليومية؟

لقد بات من الشائع أن نجد كثيرين ممن يتبنون هوية “المحافظ” أو “المسلم” يعيشون حياةً صاخبةً تسودها الفوضى، ويمارسون أنشطتهم التجارية دون أي اعتبار موافقتها للضوابط الشرعية، فلا يُعيرون انتباهًا لمسائل الحلال والحرام، أو الربا، أو الأرباح الفاحشة، أو احترام جهد الإنسان وتعبه، ودون أن يُلقوا بالًا لما إذا كانت أفعالهم تعود بالنفع على الناس والبيئة والوطن، أم أنها تلحق الضرر بها. وبطبيعة الحال، لا يمكن لأحد أن ينكر أن هؤلاء يشكلون معطيات واقعية في تتبع تطوّرمسار الإسلاموية والعلمانية، نظراً لما تحمله أسماؤهم من دلالات دينية وما توحي به ميولهم المحافظة. ولا مفر من اعتبارهم مشكلة خطيرة من منظور لغة الأصالة الخاصة بالإسلام. ولكن يمكننا أن نقول أيضًا إنه ضمن نفس اللغة، فإن هذا الاحتمال يظل قائمًا ومألوفًا في مسيرة الإنسان. وهنا يصبح من الحتمي أن يسير فهم الدين بمنطقه، وتقديره، وحُكمه، في مستوى مستقل عن التحليل السوسيولوجي.

ينبغي لنا أن نُقرّ هنا بأن النظر إلى الأمور بعين المسلم ليس مجرد تيار أيديولوجي أو موجة فكرية عابرة، بل يضمر ثِقلًا دائمًا وواقعيًا لا يمكن إنكاره، ولا بد من إنصاف أصحابه وعدم بخسهم حقهم. ففي تركيا، توجد شريحة واسعة من الناس يحرصون على تحرّي الحلال والحرام في مكاسبهم، وعلى التحقق من مدى مطابقة كل عمل يقومون به لتعاليم الإسلام قبل الإقدام عليه. وهؤلاء، بنواياهم ونظراتهم وسلوكهم العملي، هم الذين يمنحون إسلامهم حيوية حقيقية.

قبل بضع سنوات، قمنا أنا وصديقي وزميلي العزيز البروفيسور الدكتور محمود ح. أقين، بإعداد سلسلة من الكتيبات الصغيرة لـ “دار البيان للنشر” تتكون من 20 جزءا، تُعنى ببحث كيفية نظر المسلم إلى قضايا العصر وإشكالاته، ومحاولة تقديم إجابة عن هذا السؤال المحوري. وقد حملت السلسلة عنوانًا دالًا: “كيف ينبغي ينظر للمسلم أن ينظر إلى ..؟”. وتناولت السلسلة مواضيع متنوعة مثل: الديمقراطية، والعنصرية والقومية، والتقاليد والنزعة المحافظة، والحضارة الغربية، ونظرية التطور والداروينية، والقضاء والقدر والحرية، والاقتصاد والربا، والقرآن والتاريخانية، والقرآن والسنة، والفلسفة، ووسائل التواصل الاجتماعي، والجنس والحب، والمرأة والنسوية، والربوبية والإلحاد، والحداثة والتحضر… فكيف يجب أن ينظر المسلم إلى كل هذه القضايا؟

إن أول ما يتبادر إلى الذهن عند طرح هذا السؤال هو: هل يمكن أن تكون هناك نظرة واحدة مطلقة وشاملة، مُلزِمة لكل مسلم إزاء هذه القضايا جميعًا؟ ألا يمكن للمسلمين أن يختلفوا فيما بينهم حولها؟ وهل يُعدّ الاختلاف بشأنها غير جائز؟ لا شك أن باب الاختلاف في هذه القضايا مفتوح ومشروع، بل إن الآراء التي طُرحت في تلك السلسلة نفسها قابلة للنقاش والجدل. ولكن لم نتراجع عن هذا العنوان لأنه بذاته يُشير إلى البوصلة الأهم في حياة المسلم، إلى المحور الذي الذي ينبغي ألا يهمله. فكل قضية ومسألة ينبغي أن يُنظر إليها من زاوية إسلامية، تتجلى فيها نية المسلم، ورؤيته، وسلوكه المتّسق مع إيمانه. وقد لا يكون هذا المنظور واضحًا دومًا أو سهل التحديد، لكن على المسلم أن يُسلّم بوجوده، ويسعى لاكتشافه. وما يصل إليه المسلم خلال سعيه هذا، قد يختلف عمّا يصل إليه مسلم آخر يحمل النية ذاتها ويسلك طريق البحث ذاته. ولكن يظل الثابت في جميع هذه الحالات هو حرص المسلم على أن تكون كل أعماله خالصة لله، ولنيل رضاه.

إن هذا التوصيف في الواقع يمثل المنهج الذي شكّل وعي المسلمين ووجودهم منذ اللحظة الأولى التي خوطبوا فيها بالوحي وحتى اليوم. وأهم سمة تميز المسلم هي حرصه على أن يكون كلّ ما يقوم به من أفعال في حياته وفقا لأوامر الله ونواهيه وسعيا لابتغاء رضاه كما ورد بيانه في كتابه الكريم. ولكي يعرف المرء أين وكيف يتجلى هذا الرضا، لا بد أولًا من العزم الصادق على فهم الكتاب فَهمًا سليمًا، ولتحقيق هذا الفهم لا بد من امتلاك نظرة سليمة. ومن هنا جاء سؤال: “كيف ينبغي للمسلم أن ينظر؟” فهو لا يعبّر فقط عن بحث معرفي أو تأمل وجودي، بل يتضمن في طياته حساسية الموقف الإسلامي. وفي ظلّ التحولات العميقة التي شهدها العالم، وما صاحبها من اضطراب في المفاهيم، وتشوش في المواقف، لاسيما لدى المسلمين الذين وجدوا أنفسهم محاطين بأدوات ومفاهيم فرضها منطق الحداثة وتوجهاتها، أصبح هذا السؤال يُطرح أكثر فأكثر في كل مناسبة.

لكن عند التأمل العميق، يتبين أن هذا السؤال ينبغي أن يُطرحَ باستمرارٍ في كلّ زمانٍ ومكان وأن يبقى حيًّا في وعي المسلم في كل سياق، وتحت كل ظرف. فعصر النبوة، ليس مجرد يوتوبيا مثالية يستحيل بلوغها، بل هو نموذج حيّ، واقعي، يمكن الاقتداء به، وتحقيقه في كل زمن من خلال وعي صادق وسلوك ملتزم بسنة النبي ﷺ. فقد كانت نظرة الصحابة، الذين تخرجوا من مدرسة النبوة، تجسيدًا عمليًا لهذا السؤال ذاته: “كيف ينظر المسلم؟”، وكان إخلاصهم في الإجابة عنه هو الذي مكّنهم من تحقيق الاستمرارية في التمسك بالإسلام، على الصعيدين الفردي والجماعي، ولا شك أن الجيل الأول من المسلمين نجح في أن يكون المثل الأعلى في وعيه، وسلوكه، وأخلاقياته، فشكّلوا بعيشهم أصدق تمثيل للإسلام، وقدموا للآخرين نموذجًا إنسانيًا وأخلاقيًا بديلًا، وأسهموا بذلك أعظم إسهام في نشر الإسلام وتعميق حضوره في الحياة. وهكذا، فإن سؤال “كيف ينظر المسلم؟” يظل سؤالًا خالدًا لا يفقد صلاحيته بتغيّر الزمان أو المكان.

وإن للحياة المسلمة، المتشكّلة حول هذا السؤال، تاريخًا وتجليات متباينة. ومن يعجز عن متابعة هذه التجليات من الداخل قد يستسهل الاستنتاج بأن حياة المسلم لا تستند إلى أي ثوابت. ومن الطبيعي ألا يعثر هؤلاء مجددًا على الصور التي كوّنوها يومًا ما عن الإسلام، فالحياة تمضي، والواقع يتغيّر، وما من شيء يبقى ثابتًا كالصور. وأما أولئك الذين ينتظرون من المسلمين نوعًا من “التحديث” أو التكيّف، فهم من يعرف ما إذا كانوا مستعدّين حقًا لرؤية هذا التحديث حين يحدث.

وبالطبع، فإن على المسلمين أيضًا واجبًا في التعبير عن أنفسهم، لكن المسألة في النهاية تتوقف على مدى استعداد الطرف الآخر للاستماع والرؤية.

عن الكاتب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *