اخبار تركيا

لا استقلال ولا وجود لدولة بدون نخبة ثقافية

يوسف قابلان يني شفق

عندما نتحدث عن النخبة، فإننا نعني نخبة المثقفين والأكاديميين والمفكرين والفنانين والسياسيين، وكل من يقود المجتمع ويوجهه.

بعبارة أخرى، هم القادة والرواد الذين يمهدون الطريق للأجيال القادمة، ويأخذون بأيديهم، ويقودونهم نحو المستقبل.

الأجيال الرائدة تصنع التاريخ

إن من شيد الحضارات هم الأجيال الرائدة. كل جيل يولد جيلاً جديداً من الرواد، وكل عصر هو ثمرة جهود هؤلاء الرواد.

وجميع الجهود المبذولة في مجالات الحضارة، وفي مجالات الفن، والفكر، والسياسة، والثقافة، هي نتاج الأجيال الرائدة التي تقود إلى نشوء حماس وروح إبداعية مشتركة.

الأجيال الرائدة هي شخصيات استثنائية تدفع ببلادها إلى آفاق جديدة في جميع المجالات المادية والمعنوية.

إن عبقرية الأمة في الفكر والفن والجماليات تتجسد في هذه الأجيال الرائدة. هناك هالة وبيئة خاصة تولد هذه الشخصيات الرائدة.

والهالة هي الروح التي تولد الإبداعات لدى الأفراد والمجتمعات. أما الجو فهو البيئة التي تنمو فيها هذه الروح.

هناك أيضًا عبقرية خاصة للمجتمعات. فكل خطوة فكرية ودينية وفنية وجمالية وروحية لا تساهم فقط في تغذية هذه الأرضية والجو والروح، بل هي أيضًا نتاج التغذية المتبادلة من هذه الأرضية والجو والروح.

قد يكون من الصعب الإجابة على سؤال: “أيٌّ من هذه العوامل أكثر تحديدًا؟” هل هي البيئة أم العقل؟ العقول القوية هي التي تُنشئ الأرضية، وتثير الرياح، وتقوم بأعمال عظيمة تحول الرياح إلى أرواح.

الحضارة هي نتاج عباقرة، سواء كانوا أفراداً أو جماعات.

العبقرية فريدة من نوعها، ولكن العباقرة الذين يبنون الحضارات هم استثنائيون ولكنهم ليسوا خارج النطاق. العباقرة الذين يتجاوزون الحدود لا يبنون الحضارات، بل يهدمونها فقط.

الأجيال الرائدة المؤمنة والمخلصة

يبنى صرح الحضارة على أيدي الأجيال الرائدة التي تؤمن بمبادئها وتكرس لها، والذين يخوضون رحلات طويلة تتجاوز الزمان والمكان، لتجسد الحياة وتمنحها للآخرين.

تشكل المجتمعات التي تمتلك روحاً مجرى التاريخ. وهذه المجتمعات هي تلك التي يبنيها أجيال رائدة استثنائية تمتلك رؤية حضارية.

تركيا هي البلد الوحيد في العالم الذي يفتقر إلى مثقفين حقيقيين، فما هو السبب؟

السبب هو أن تركيا كانت هدفاً لمشروع خاص. فقد أدرك البريطانيون الذين وضعوا أسس التاريخ الحديث، أنه لا يمكن هزيمة الأتراك في ساحات المعارك، لذلك قرروا عرقلة مسيرتهم التاريخية التي تغير مجرى التاريخ.

إن إعاقة تركيا ومنعها من مواصلة مسيرتها التاريخية كان أحد أكبر مشاريع البريطانيين، والغربيين عموماً.

الاحتلال الفكري

لم يتمكنوا من هزيمة تركيا في ساحات المعارك، فقرروا احتلالها من الداخل، أي احتلال عقول أبنائها. قبل قرنين سيطروا على الدولة، وقبل قرن سيطروا على عقول الناس.

وقد لعب مصطفى رشيد باشا ومن سار على نهجه أمثال علي باشا وفؤاد باشا دورًا حاسمًا في انهيار الدولة العثمانية من الداخل وتحويلها إلى دولة شبه مستعمرة.

وفي القرن الأخير، لم يتم احتلال البلاد فعليًا، ولكن تم غزوها فكريًا. فقد تم إبعاد الإسلام، الذي كان المصدر الوحيد الذي يربي الأجيال الرائدة ويصنع الطفرات الروحية الكبرى التي تشكل جذور روح هذا المجتمع، عن جميع مؤسسات الدولة، وتمت تصفيته. وصلنا إلى مرحلة تحولت فيها السوسيولوجيا إلى حالة من التحول الجذري، تم تدميرها، وأصبح المجتمع غريبًا عن نفسه، فاقدًا لهويته عاشقاً لجلاده “الغرب” وأداة مطيعة في يده.

لا يمكننا الاستمرار على هذا المنوال، فإذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإننا نسير نحو الهاوية. يجب علينا عكس هذا المسار. والسبيل الوحيد لتحقيق ذلك هو تربية جيل جديد من القادة، نخبة المجتمع، قادرين على فتح آفاق جديدة للبلاد. وإذا لم نتمكن من تربية جيل من المؤمنين المخلصين فلن نتمكن من منع انهيار هذا المجتمع.

وهذا يعني بالنسبة لنا ما يعنيه سقوط الأندلس، أي الهلاك والدمار.

إن استقلالية تركيا ومستقبلها ان بقدرتها على توليد روح المقاومة والتجديد والبقاء، وهذا يتطلب وجود أجيال جديدة من القادة الملهمين القادرين على إذكاء روح الأمة.

المشهد الحالي مرعب، فتركيا هي الدولة الوحيدة في هذا العالم المنهار التي لم تستطع القوى الرأسمالية التي تحكم العالمي السيطرة عليها أو ابتلاعها، لكنها تسير نحو هلاكها بيدها، وتقضي على نفسها بنفسها. لم تنجح القوى الاستعمارية في احتلال تركيا من الخارج، ولكنها نجحت في احتلالها فكرياً وثقافياً. وإذا لم نوقف هذا الاحتلال الفكري، فلن نتمكن من منع انقسام البلاد وسقوطها في فوضى عارمة لا قدر الله.

عن الكاتب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *