اخبار تركيا
في تقرير بصحيفة يني شفق، سلط الكاتب والخبير التركينيدرت إيرسانال، الضوء على تداخل الأدوار بين الولايات المتحدة وإسرائيل وتنظيم “قسد/واي بي جي” من خلال استعارة “دمى ماتريوشكا الروسية”، حيث يكشف أن المساس بأحد الأطراف يعني بالضرورة اهتزاز البنية كلها.
يركّز الكاتب على تصريحات المبعوث الأميركي حول “صيغة أقل حدة” لإدارة سوريا، باعتبارها إشارة إلى مشروع تقسيم مقنّع يثير قلق أنقرة. كما يربط بين العدوان الإسرائيلي على غزة، والتحركات الأميركية في سوريا والقوقاز، والتحذيرات التركية المتكررة بشأن الإرهاب ووحدة الأراضي.
ويخلص إيرسانال إلى أن واشنطن تخطئ حين تتجاهل حساسية تركيا وتظن أن اصطفافها الإقليمي يعني تبعيتها. وفيما يلي نص التقرير:
الأمر أشبه بدمى ماتريوشكا الروسية. تفتح الولايات المتحدة فتجد إسرائيل ثم تفتحها فتُفاجأ بـ” قسد/واي بي جي” الإرهابي.
وما لا نستطيع إيضاحه بشكل كافٍ هو أنّه لا حاجة إلى مهاجمة الجميع معا، ولا إلى أن تُوجّه ضربة لأحدهم فيما تبقي عينك على الآخر. فبمجرّد أن تُمسّ أحد أطراف هذه البنية المتداخلة، يتألم الجميع معًا، لأنهم في نهاية المطاف مترابطون ومتداخلون.
لقد حظي مقالي السابق بعنوان “إسرائيل لا يردعها إلا القوة.. فما هي هذه القوة وكيف يتم توظيفها؟” (24/08) باهتمام كبير، وشكرًا لكم، لقد تلقيت العديد من المكالمات والاقتراحات الجديدة، ولكن ها هي إسرائيل ترتكب مجزرة جديدة في مستشفى الناصر في غزة.
وبينما كان المستشفى يُقصف وتُستهدف فرق الإغاثة، كان المسؤولون الأمريكيون، ومنهم السفير باراك، إمّا في تل أبيب أو قد غادروها لتوّهم. وهذا بحد ذاته قد لا يبدو أمرًا كبيرًا، فلو سألتهم لادعوا أنهم كانوا “يناقشون ملف سوريا”، لكن الأسوأ أنه بدأ بنشر تصريحات مزعجة.
وهنا تتجلى صورة “ماتريوشكا” بوضوح؛ إذ أفادت صحيفة واشنطن بوست بأنّ المبعوث الأميركي باراك، الذي أكَّد عشرات المرات حتى الأمس دعمه لوحدة الأراضي السورية ودعم دمشق، عاد ليطرح فجأة نموذجًا مختلفًا لإعادة تشكيل البلاد.
حيث صرح باراك قائلا: “ليس المطلوب إقامة نظام فيدرالي كامل، بل صيغة أقل حدة تضمن لجميع المكوّنات الحفاظ على هويتها وثقافتها ولغتها، بعيدًا عن أي تهديدات أيديولوجية أو تطرف ديني”
يا للعجب!
تتداول وسائل الإعلام المحلية والأجنبية هذه التصريحات بين علامتي اقتباس وبالصيغة نفسها تقريباً. وربما لم يقصد السيد السفير/الممثل الأمريكي أن يقولها على هذا النحو تحديدًا، أو لعلّه يرغب في تصحيحها أو توضيحها لاحقًا. غير أنّ مثل هذه العبارات ــ أو ما يماثلها في المضمون ــ تثير قلقًا بالغًا لدى تركيا، ومع ذلك، فنحن معتادون على مثل هذه الخطابات، ولدينا الرصيد من المعرفة والخبرة سواء في شؤون الشرق الأوسط أو في مكافحة الإرهاب ما يجعلنا ندرك تماماً أن وراءها عواقب سيئة. ولهذا فإن عبارات من قبيل: “تضمن لجميع المكوّنات الحفاظ على وحدتها” أو “ليس نظاما فيدراليا كاملا، بل صيغة أقل حدة ” تبدو لنا وكأنها إهانة مبطّنة.
وتبدو كذلك لا لوجود فخٍّ خفيٍّ في طياتها، بل لأنها تعاملنا كأننا من السذاجة بحيث لا نرى ما وراءها أو يمكن أن ننخدع بها
على سبيل المثال، ماذا يعني “صيغة أقل حدة”؟
إن استخدامه لتعبير “أقل حدة” يدل على أنه نفسه لا يعرف العمق المطلوب. ولكن يبدو أنه قريب من “السطح”. دعونا نوضح ذلك بلغتهم.
لدى الأمريكيين تعبير “six feet under”، وربما يكون الكثيرون على دراية به. وهذه العبارة تعني حرفيًا: “ستة أقدام تحت الأرض”، و”القدم” هي وحدة قياس تعادل 30.48 سم. ولكن في الإنجليزية، هذا التعبير هو مصطلح مجازي يعني “الموت أو الدفن”. فهذا هو عمق القبر المعتاد لديهم. وعندما يُستخدم هذا التعبير لوصف شخص ما، فإنه يعني أنه “لم يعد على قيد الحياة، بل أصبح تحت الأرض”.
إذن، ما يعنيه باراك بـ “أقل حدة” هو بالنسبة لتركيا “ستة أقدام تحت الأرض” أي موت محقق. وإذا لم تكن كذلك بعد، فنحن كفيلون بإنهائها.
وهذا هو جوهر التحذير الذي أطلقه الرئيس في فعالية لإحياء الذكرى الـ954 لنصر معركة ملاذكرد، قبل يومين: “إذا استل السيف من غمده، فلا مكان للأقلام والكلمات.”
وفي السياق السوري، تُوجَّه هذه الرسالة بالدرجة الأولى إلى قسد/واي بي جي”، وإلى أولئك الذين ارتموا في أحضان “الراعي الجديد” إسرائيل.
لكن علينا أن نتساءل: هل انتهت صلاحية “الراعي القديم” أم لم تنته بعد؟
ونفهم مما أكدناه في مقالنا السابق وفي استعارة “ماتريوشكا”، أن العلاقة المترابطة بين الولايات المتحدة وإسرائيل وتنظيم “بي كي كي/واي بي جي” الإرهابي ونهج أمريكا تجاهها، يشهد “انزياحات” محدودة.
وترتكب واشنطن مجددا خطأً فادحاً عندما تلمح ضمنياً إلى أن بعض الخطوات غير قابلة للتحقيق، متجاهلة حساسية تركيا البالغة تجاه مقاربة “منطقة خالية من الإرهاب”. بينما كنا قد أظهرنا خلال إدارة بايدن التي يكنون لها الكراهية أننا قادرون على اتخاذ تلك الخطوات.
وندرك أن “حساسية إسرائيل” لدى ترامب وإدارته ة بشؤونهم الداخلية. وهذا ليس ضغطًا يُستهان به. فترامب يواجه العديد من المشاكل الكبيرة، وتوقيتها أيضًا بالانتخابات النصفية. ويضاف إلى ذلك أعباء أوروبا وروسيا، فضلًا عن قرارات إرسال قوات إلى عدد من الولايات، والاستقالات والإقالات المتكررة في مؤسسات الأمن القومي، وهي كلها قضايا وتوازنات لا يمكن التقليل من شأنها. ولكن هذه الأعذار حتى لو كانت مبررة، وحتى لو كانت علاقاتنا مع إدارة ترامب أفضل نسبيًا مقارنة بسابقتها، إلا أنها لا تعني تركيا إلا بقدر محدود.
وعلى الرئيس ترامب أن يُظهر احترامًا للطريقة التي تعتمدها أنقرة في إدارة مرحلة جديدة من العلاقات التركية الأمريكية. إذ تبذل جهودًا حثيثة لدفعها نحو الأفضل، رغم أن الشكوك تجاه الولايات المتحدة وهي شكوك لها ما يبررها من بدايتها إلى نهايتها لا تزال قائمة. ولكن عندما تُطلق تصريحات من هذا القبيل عقب لقاءات مع إسرائيل، فإنّ مساحة الحوار والنقاش تضيق، وتُغلق الأبواب أمام الكلمة والقلم معًا.
وإذا تحدثنا بلغة الواقعية السياسية الباردة، فإن أوكرانيا أو الشرق الأوسط ليسا مكانين يُمكن التخلي عنهما بسهولة. ويُطلق الرئيس ترامب تصريحات من قبيل”ما شأني، هذه ليست حربي، افعلوا ما شئتم”، وبالفعل، هي ليست حربه، لكنه يعلم أنه لا يمكنه التخلي عن هذه المناطق. فإذا تخلى عن المنطقتين، فسوف يخسر الحرب العالمية، وستتبعها الخسارة الاقتصادية. كما أنّ فترة ولايته قصيرة، وأي إدارة جديدة ستواجه صعوبات أكبر.
ولا ينبغي لأنقرة وواشنطن أن تعيدا نفس الحوارات مرارًا وتكرارًا. فبينما تحاول أمريكا جاهدة الحصول على موطئ قدم في ممر زنغزور الصغير، وتفعل ذلك كجزء من سياستها للعودة إلى القوقاز، فهل ستضحي بتركيا؟
ألم تضرب أوكرانيا وداعميها أنابيب الطاقة المتجهة إلى المجر وتشيكوسلوفاكيا أثناء لقاء ترامب ببوتين في ألاسكا، بينما كان قادة الاتحاد الأوروبي يجلسون مصطفين كالأكواب في المكتب البيضاوي، ألم تبدأ أمريكا على الفور “بجمع” المسؤولين عن تفجير خطوط “نورد ستريم” بين ألمانيا وروسيا في عام 2022، قائلة “لقد فهمت الرسالة”؟ فمن يقف وراء ذلك؟ وإلى جانب من كانت تقف تركيا منذ البداية؟
والخلاصة، أنه لا ينبغي لإدارة ترامب أن تفترض أن وقوف أنقرة في جانب “الحق” في الأحداث الإقليمية والعالمية يعني بالضرورة أنّها تقف إلى جانبها هي.
وإذا تحولت خطط أو محاولات “إعادة الاصطفاف” في سوريا، والعراق، والشرق الأوسط عموماً، إلى محاولات لإخضاع الأطراف، وإذا استمرت “قسد/واي بي جي” في المقاومة، فإن الظروف ستتغير. وستصل رياح التغيير حتمًا إلى أوكرانيا والقضايا الة بها. هذه هي الحقائق الجيوسياسية.