مبادرة بهجلي.. هل تشكل منعطفًا جديدًا في القضية الكردية؟

اخبار تركيا
استعرض الصحفي والخبير الاستراتيجي التركي مصطفى إكيجي، تحليلا لمبادرة السلام الجديدة التي بدأت بتصريح رئيس حزب الحركة القومية دولت بهجلي، حليف الرئيس رجب طيب أردوغان، وتتضمن مطالبة تنظيم “بي كي كي” (حزب العمال الكردستاني الإرهابي)، بإلقاء السلاح، في إطار جهود حثيثة لحل القضية الكردية في البلاد.
والصحفي والكاتب مصطفى إكيجي، هو المنسق السابق لقناة “TRT كردي”، ومؤلف كتابي “التشبه بك” و”الأكراد عند مفترق الحقائق والأحلام”. ويواصل حاليا أبحاثه الأكاديمية بينما تنشر مقالاته في مجلة “كريتيك باقيش”.
وفي حوار بشأن مبادرة بهجلي، مع الصحفيبكر غوندوغدو، نشر على قناة “كريتيك باقيش” في موقع يوتيوب، قال إكيجي:
إن تركيا تعاني من آفة الإرهاب منذ أكثر من 40 عاماً. في التسعينيات، كانت هناك مشاهد يمكن وصفها بأنها حرب أهلية. لكن في السنوات الأخيرة، وبفضل الإجراءات التي اتخذتها تركيا، سواء العسكرية أو الاجتماعية والاقتصادية، خسر “بي كي كي” الكثير من قوته، خاصة في تركيا. بل إن بعض المسؤولين ذكروا أن عدد الإرهابيين في تركيا انخفض إلى أقل من 50 أو حتى 20. لذلك، فإن العالم الغامض، والقضية الغامضة والضبابية التي تصفها بعض الدوائر بالمسألة الكردية، قد استقرت الآن على أساس اجتماعي وسياسي.
ومع ذلك، لا يزال “بي كي كي” موجودا بصفة كيان إرهابي، خاصة في سوريا والعراق، وحتى في تركيا، وإن كانت قدراتها قد تراجعت. هذا ما يجعل من الصعب مناقشة القضية بحرية في الساحة السياسية أو في الشارع. لا شك أن تصريح السيد بهجلي الذي طالب فيه “بي كي كي” بإلقاء السلاح والمجيء إلى البرلمان، يحمل بالفعل قيمة كبيرة جداً باعتباره زعيم حزب محوري يمثل القومية التركية وشخصية أسطورية ورمزية إلى حد ما في هذا المجال. يقول الخبير التركي.
في الواقع، يمكن قراءة التصريح باعتباره نسخة جديدة وأكثر واقعية وثباتا لخطاب السياسة في السهول لمحمد آغار، الذي شغل منصبي وزير الداخلية والمدير العام للأمن، في منتصف التسعينيات. أهمية أن يصدر هذا التصريح من السيد بهجلي تكمن في التالي: خلال عملية مكافحة الإرهاب المستمرة منذ 40 عامًا، تم تنفيذ العديد من الأنشطة في المناطق التي يقطنها الأكراد، بعضها جنائي وغير نظامي، والبعض الآخر يندرج تحت فئة الجرائم. وقد نُسب الجزء الأكبر من هذه الأنشطة إلى القوميين أو الجماعات القومية (التركية)، سواء كانت تُنفذ باسمهم أو كانت ضمن صفوفهم أم لا، وهذا موضوع نقاش منفصل. لكن الإدراك العام في المجتمع هو أن المحور الأيديولوجي الذي يمثله السيد بهجلي قد تم وضعه تاريخيًا كطرف في هذه الحرب أو الصراع. لذلك، فإن تصريح السيد بهجلي، بصفته ممثلًا وطرفًا في هذا الأمر، يعطي الشرعية ويجعله ذا معنى.
إنه تصريح قيم حقًا، وكان مذهلًا ومفاجئًا. لقد شاهدت اجتماع الكتلة البرلمانية للحزب مباشرة. عندما تم صدرت تصريحات بهجلي في اجتماع كتلة حزب الحركة القومية (MHP)، كانت هناك في البداية حالة من الدهشة بين الحضور. لم يبدأ التصفيق على الفور، بل كان هناك تساؤل عما نسمعه وما يحدث، وكان هناك حقًا ارتباك واضح داخل كتلة حزب الحركة القومية. ولكن كما يبدو، فإن صفة السيد بهجلي كرجل حكيم، وشخصيته كرجل دولة، وثقله كزعيم قومي تركي، قد قللت من ردود الفعل المحتملة في هذه المرحلة.
بالفعل، يبدو أن قاعدته الخاصة قد اقتنعت بهذا الأمر. قاعدة القومية التركية، بناءً على الأسباب التي ذكرتها أعلاه، تفكر على الأرجح بالطريقة التالية؛ إذا كان دولت بهجلي قد أدلى بهذا التصريح، فلا بد أن هناك أسبابًا قوية وراءه، وهو يعلم ما يفعل.
بالتأكيد، هناك ثقة كبيرة من قاعدته تجاه دولت بهجلي تكمن وراء هذا الموقف. أي أن الصورة التي خلقها السيد بهجلي في المجتمع عمومًا وفي قاعدته على وجه الخصوص، كرجل حكيم ورجل دولة، ليست صورة أسطورية ورمزية فحسب، بل إنها تستند أيضًا إلى واقع ملموس.
بهذا المعنى، فإن وصول بهجلي إلى هذه المرحلة هو أمر قيم للغاية. مسألة ما سيؤول إليه الأمر مهمة كذلك. فهناك تصور أسطوري مشابه موجود لدى القاعدة القومية الكردية تجاه لأوجلان في الواقع.
هناك عددٌ ملحوظ من الأشخاص يتأثرون أيضًا بتلك الصورة الأسطورية لأوجلان. سنرى ما إذا كان أوجلان سيرفع السقف إلى المستوى الذي وضعه السيد بهجلي، أو ربما أعلى منه. أنا أعتقد أنه سيرفعه.
لأن المسألة في الواقع ليست مجرد إلقاء “بي كي كي” للسلاح من الناحية الفنية. ففي الأساس، قدرة التنظيم على القيام بعمليات داخل تركيا محدودة جدًا ولا تُذكر.
ولكن المسألة الأساسية هنا هي أن تأثير “بي كي كي”، كتنظيم إرهابي، لا يزال قائمًا على السياسة، ولا يزال قادرًا على التأثير في المجتمع بمستوى ملحوظ. وهذه قضية اجتماعية وسياسية في آن واحد.
لذلك، فإن التصريح الذي سيصدره أوجلان، ودرجة ذلك التصريح ومحتواه، وبالطبع دعوته إلى إلقاء “بي كي كي” للسلاح، ستكون أمورًا مهمة. ولكن في رأيي، فإن الجزء الأهم هو أن تأثير أوجلان على قاعدته الجماهيرية قد يكون مشابهًا لتأثير السيد بهجلي على قاعدته. إذا كانت النتيجة إيجابية، أعتقد أن ذلك سيكون بمثابة وسيلة لأمور جيدة. كما أعتقد أن النتيجة النهائية لكلا التصريحين ستكون إيجابية وتؤدي إلى مكانة جيدة.
بكر غوندوغدو يبدو أن الأجواء الإيجابية التي تشكلت بعد لقاء بهجلي مع أعضاء حزب المساواة وديمقراطية الشعوب (ديم) سوف تتعزز مع الخطاب الذي سيلقيه عبد الله أوجلان، ولكن هناك جو من الحذر في الرأي العام. من ناحية، هناك تجارب سابقة لم تنجح، ومن ناحية أخرى، هناك اعتقاد بأن التنظيم لن يلقي السلاح، مما يؤثر على هذه الأجواء الإيجابية. ما هي توقعاتك؟ كيف سيتطور هذا الوضع؟
مصطفى إكيجي: نعم، أوافق على أن هناك الكثير من المخاطر. الموقف الحذر في المجتمع له مبرراته. لأنه كما تعلمون، في العملية السابقة، تم رفع سقف التوقعات بشكل كبير جداً، وتم اتخاذ خطوات شجاعة جداً من قبل الدولة والمؤسسات المختصة، ولكن في النهاية، تحويل التنظيم لهذا الأمر إلى عرض، وتفسيره بشكل أثار توقعات مختلفة، أدى للأسف إلى إفشال العملية. ولكن هذه المرة هناك وضع مختلف؛ أولاً، قدرة تنظيم “بي كي كي” على القيام بأعمال عنف في تركيا هي في أدنى مستوياتها على الإطلاق. ثانياً، المجال السياسي أقوى وأكثر رسوخاً، وهناك نهج أكثر تماسكاً وتجانساً في أجهزة الدولة. هذا أمر بالغ الأهمية. ولكن الأهم من ذلك، وجود شخصية مثل السيد بهجلي، وهو رجل دولة ذو شخصية قوية، قد دخل إلى الميدان وتبنى القضية ويتزعمها، وهذا يغير ويحول بشكل حقيقي طبيعة التطورات. لذلك، نعم، ستظهر بعض الأصوات المتصدعة داخل تنظيم “بي كي كي”. مثل هذا التطور ليس مفاجئاً في رأيي. لأن ما نسميه “بي كي كي” أصبح الآن عبارة عن شركة ذات رعاة كثر. إنها شركة إرهاب.
في التحليل النهائي؛ الأساس الشرعي الأيديولوجي هو القومية الكردية، ولكننا جميعًا نعلم أن هناك عوامل أخرى مثل الغربيين، وأمريكا، ونظام الأسد في سوريا الذي انهار مؤخرا، والعامل الإيراني، وغيرهم. هذا كيان تلعب فيه العديد من الجهات الفاعلة المختلفة دورًا مؤثرًا. لذلك، فإن مجال تنظيم “بي كي كي” هو مجال تتصارع وتتداخل فيه العديد من الحسابات المتناقضة. ولهذا السبب، قد لا يصدر صوت موحد من التنظيم أو قد تظهر أصوات متضاربة. بالإضافة إلى ذلك، فإن عبد الله أوجلان، الذي لا تربطه اتصالات مباشرة مع التنظيم منذ 20 عامًا، أصبح تأثيره على التنظيم تأثيرًا رمزيا إلى حد كبير. لذلك، سنرى إلى أي مدى ستؤثر تصريحات أوجلان بشكل مباشر على الكوادر العسكرية، أي الجناح العسكري للتنظيم. هذا موضوع نقاش منفصل. إنه موضوع تقني. في رأيي، إنه ليس موضوعًا بالغ الأهمية في الواقع. الجوانب الاجتماعية والسياسية والنفسية للموضوع هي الأكثر أهمية.
هل تعتقد أن التنظيم ربما لا يستجيب لطلب الشخص الذي أسسه ولا يزال يتزعمه حتى اليوم بشأن إلقاء السلاح؟
أعني أنه قد لا يكون هناك تأثير موحد، هذا ما أقصده. والسبب هو التالي: في عام 2019، كان هناك تصريح لأوجلان، ولكن التنظيم، وخاصة حزب ديم، قام بتجاهل هذا التصريح. ومنذ ذلك الحين، أوجلان لم يلتقِ بالحزب أو التنظيم. على الرغم من أن التنظيم يحافظ باستمرار على حجة الدعاية الخاصة بالعزلة في عالمه الداخلي، إلا أنه من الواضح أن الحزب أو التنظيم لم يقل ‘هيا بنا نذهب ونتحدث’، وأوجلان أيضًا لم يقل لهم ‘تفضلوا تعالوا’. بصراحة، لم تكن هناك مثل هذه العلاقة منذ وقت طويل. أوجلان قطع هذا الاتصال منذ فترة طويلة. لأنه رأى كيف تم تجاهله وتقليل قيمته. لكنني أعتقد أن أوجلان لديه تأثير رمزي وأسطوري على جمهوره في تركيا، وبشكل أكبر في سوريا، بما في ذلك الكوادر العسكرية، ولكن بشكل أساسي على المجتمع. لذلك، فإن مسألة إلقاء التنظيم للسلاح مهمة بالطبع. إلا أننا بحاجة إلى أن نرى عمليًا إلى أي مدى سيؤثر ذلك. لأن تصريحات جميل باييك وقادة التنظيم منذ البداية حول موقف أوجلان كانت تقول: ‘نحن المعنيين بالعملية، وظروف السجن التي يعيش فيها أوجلان ليست مناسبة كثيرا لذلك’. هذه التصريحات تعطي إشارة حول التأثير المحتمل لأي تصريح قد يصدره أوجلان على التنظيم أو داخله في رأيي. ولكن كما قلت، لا يوجد جناح واحد داخل “بي كي كي”، بل هناك العديد من الأجنحة، وفرضية أن هذه الأجنحة ستتحرك بشكل موحد ستُختبر من خلال تصريحات أوجلان.
قد يكون هناك اختلاف في الرأي بين قيادة التنظيم وقاعدته رغم تصريحات أوجلان. هل تعتقد أن قيادة التنظيم ستقاوم؟
نعم، قد يكون هناك من يقاوم.
هل هذا الأمر بعلاقة مصلحة؟
بلا شك. دعونا لا ننسى أن الجيل الأول من كوادر التنظيم هم الآن في السبعينيات من العمر. من دوران كالكان إلى جميل باييك، ومن مراد كارايلان إلى الآخرين. هؤلاء تجاوزوا السبعين عامًا. بالإضافة إلى ذلك، هم يعيشون في عالم السبعينيات. لأنهم منذ السبعينيات لم يكن لديهم اتصال بالحياة الواقعية، فهم معزولون في الجبال وفي بيئة عسكرية بحتة. ولكن في نفس الوقت، يعيشون داخل شبكة علاقات تم تطويرها خلال هذه العملية. تشمل هذه الشبكة الاقتصاد والسياسة وأسلوب حياة مختلف. للتنظيم هالة خاصة به، ولغة خاصة به، وكذلك عالم خاص به. ومن الصعب التخلي عن الراحة التي يوفرها هذا العالم. لأن السياسة، في النهاية، هي مواجهة الواقع. لقد اختبرنا جميعًا هذا مرارًا وتكرارًا. على سبيل المثال، تطبيق الأوصياء في تركيا يشرح الكثير عن هذا. ربما كنت أول من أشار إلى ذلك: يتم التصويت لحزب الشعوب الديمقراطي، فيوز بالبلديات، ولكن يتم لاحقا تعيين أوصياء عليها. ومع ذلك، لا يوجد رد فعل ملحوظ في المجتمع تجاه هذه التعيينات. في مقال كتبته آنذاك، صغت موقف الشعب تجاه هذا الأمر على النحو التالي: ليفز حزب الشعوب الديمقراطي ولكن ليتم تعيين الأوصياء. السبب هو أن عمل حزب الشعوب الديمقراطي، أي حزب ديم في يومنا، أو “بي كي كي”، كبير جدًا ومفرط للغاية. أي أن مواقفهم ونهجهم وحججهم وسياساتهم مفرطة للغاية. وبالتالي، التعامل مع مشاكل الناس اليومية، مثل القمامة والمياه والإسفلت والطرق، يعتبر ذلا بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في هذا العالم.
أي أن هناك نهج من قبيل: هل سنتعامل مع قمامتكم بينما نحن نحاول بناء دولة؟
نعم، ولكن هناك أيضًا واقع الشعب. الحياة مستمرة، والقمامة يجب أن تُجمع، والناس يريدون الحصول على خدمات بمعايير جيدة. يريدون الحصول على خدمات بلدية. في هذا الصدد، سياسة الأوصياء لم تخلق رد فعل بالحجم الذي توقعه حزب حزب الشعوب الديمقراطي أو “بي كي كي” في الشارع الكردي. وكان هذا هو السبب في ذلك. أي ليفز حزب الشعوب الديمقراطي ولكن ليتم تعيين الأوصياء. هذا هو الطريق الذي وجده الشعب في مواجهة النظرة الاستيعابية والإنكارية للدولة، وكذلك في مواجهة الموقف المفرط لـ”بي كي كي”. ومن المحتمل أن يحدث شيء مشابه اليوم. لينسحب “بي كي كي” تمامًا من الساحة، ويلقي السلاح، ويحل نفسه، حسنًا. لكن تطلعات الأكراد، كطلب سياسي، باحترام الهوية الكردية والوجود الكردي، وتسجيل ذلك على أرضية قانونية، سوف تستمر. في الواقع، دعوني أوضح ذلك أيضًا. أعتقد أن كل من حزب العدالة والتنمية، والأحزاب اليمينية واليسارية بشكل عام، والرأي العام التركي، و”بي كي كي”، كلهم يفسرون بشكل خاطئ الأصوات التي تعطى لحزب ديم. على سبيل المثال، “بي كي كي” يفسر الأصوات التي يعطيها الأكراد بنسبة 7080 في المئة لحزب ديم أو حزب الشعوب الديمقراطي، على أنها دعم لصراعه المسلح وأنشطته الإرهابية، ويستخدمها بهذه الطريقة. وبالمثل، الرأي العام التركي، بجناحيه اليميني واليساري، يفسر هذه النسبة العالية من الأصوات التي يعطيها الأكراد لحزب الشعوب الديمقراطي أو حزب ديم على أنها دعم لإرهاب “بي كي كي”. في حين أن هذا الأمر خاطئ جدًا.
نفس النسبة من الأصوات حصل عليها حزب العدالة والتنمية سابقا في تلك الولايات.
نعم، هذا ما أقصده. أي أنه لا يوجد شارع كردي موحد. بالإضافة إلى ذلك، هناك معنى لهذه الأصوات. والمعنى هو التالي: نحن نتوقع احترامًا للهوية الكردية والوجود الكردي، وننتظر تسجيل ذلك على أرضية قانونية. في الواقع، التصويت لحزب معترف به رسميًا من قبل الدولة، ومُمثل في البرلمان، يعني أن نقول: “أنا كردي وأنا موجود”. ليس له أي معنى آخر. من ثم تعالوا وعيّنوا الأوصياء للبلديات ليقدموا الخدمات. وهذا ما يحدث بالفعل. كما تعلمون، مرشح حزب ديم يفوز بنسبة 70 في المئة من الأصوات، ولكن بعد ثلاثة أيام يتم استبداله بوصي، ولا تشتعل الشوارع بسبب ذلك. بينما لو تذكرنا أحداث التسعينيات ورد فعل المجتمع آنذاك، فقد كانت الشوارع تشتعل، وكان الناس والجماهير في حالة حراك. أما الآن، فنحن نواجه الواقع. ما هو الواقع؟ الخبز، والشوارع، والكهرباء، والمياه، والطرق، والوظائف. هذه هي الحقائق التي يجب أن نوفرها. والآن، كل من الحكومة والدولة تقومان ببناء تواصل أكثر صحة مع المجتمع في هذا الصدد. لذلك، أعتقد أن تصريحات السيد بهجلي، وآمل أن تكون تصريحات زعيم التنظيم الإرهابي أوجلان أيضًا على هذا المستوى، ستساهم في خلق أرضية يمكن من خلالها مناقشة هذه القضية على مستوى المجتمع بشكل أكثر سياسية، وأكثر اجتماعية، وأكثر سلمية.
أي أنك تقول إنه إذا خرج “بي كي كي” من المعادلة وسكتت الأسلحة، وتشكلت أرضية معقولة للحوار والنقاش، فإن هذه المشكلة يمكن حلها، أليس كذلك؟ يعني إذا ألقى “بي كي كي” السلاح…
إننا نسميها مشكلة، ولكنها عبارة عن مجال غامض جدًا، وغير واضح. لأن فهمنا لما نعنيه بـ “المشكلة الكردية” ينتشر عبر طيف واسع من الآراء، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن أكثر المتعصبين إلى أكثر الليبراليين. إنها تمثل مجالا غير محدد يمكن تفسيره بطرق مختلفة. لذلك، عندما أقول دعونا ننظر إلى الأمر بشكل أكثر اجتماعية، فإنني أقصد ذلك. أي إذا بقيت هذه القضية في أيدي المتعصبين، أو في أيدي الإرهابيين والمفرطين، فإن مهمتنا ستكون صعبة. يجب أن تُنتزع هذه الحجج من أيديهم. علينا جميعًا أن نواجه حقائق المجتمع. في عام 2019، أطلقت على كتابي الذي يتناول هذا الموضوع اسم “الأكراد عند مفترق الحقائق والأحلام”. للأكراد حقائق وكذلك أحلام. علاوة على ذلك، هذه الحقائق والأحلام ليست موحدة، بل هناك أحلام وحقائق تختلف حسب الطبقة الاجتماعية، والمنطقة، والأيديولوجيا، والوضع الاجتماعي والاقتصادي، إلخ. هناك الآن جمهور يعيش في حالة نفسية غريبة، وكأن الدولة ستنشئ كردستان وستقدمها لهم كهدية. هذا نهج ساذج جدًا، وطفولي، ومراهق. أو أن الأكراد مثلا سينشئون دولة، وسيقيمون كردستان، ويعتقدون أن تركيا تعيق ذلك. هذه نهج طفولي وساذج. أولاً، هناك جهل كبير في الخلفية الذهنية لهؤلاء حول مفهوم الدولة وطبيعتها. هذا أيضًا يعكس عدم فهم لطبيعة الدول وهيكلها. في أحداث الأنفاق والخنادق، رأى الأكراد أنهم يُجرون إلى نفق مظلم لا يُعرف أين سيؤدي. وحينها خسر التنظيم الكثير. لم يجدوا حتى الدعم أو رد الفعل الذي كانوا يتوقعونه من قاعدتهم. لأن المجتمع يعيش مع الواقع، في حين أن التنظيم يعيش في عالم من الأحلام المفرطة.
يعني أن الشعب رأى ما كان التنظيم يحاول فعله وأفسد اللعبة.
نعم، هذا ما أحاول قوله. نقاش مشابه سيحدث اليوم أيضا. لذلك، فإن مسألة كيف تتطور القضية الكردية وكيف تُحل هي مجال غامض جدًا ومثير للجدل. وبالتالي، يجب نقل هذه القضية إلى السياسة، وخلق بيئة يمكن للسياسيين الحقيقيين مناقشتها دون خوف أو تردد. هناك بوضوح نظام وصاية فوق الموضوع. كما كان الحال في الماضي عندما كانت السياسة التركية تحت ضغط الهيمنة الأوليغارشية والعسكرية ولا تستطيع التحدث بحرية، اليوم هناك أيضًا وصاية خانقة مماثلة في السياسة الكردية. فهم لا يتحدثون ولا يستطيعون التحدث دون تلقي تعليمات من قنديل. لأنهم لا يملكون أفكارًا خاصة بهم، ولا يملكون حججًا سياسية. إنه مجال غامض، وهناك ثقافة طاعة هناك. ولكن عندما يتم سحب السلاح، وعندما يتم إزالة وصاية التنظيم القائمة على السلاح والقوة، سيظهر نوع من الفاعلين السياسيين الأكثر واقعية ومعقولية. وهذا سيجعل القضية أكثر قابلية للنقاش، كما هو واضح من التصريحات، على مستوى البرلمان والمجتمع والإعلام. سوف تتحول قضايانا إلى حالة يمكن مناقشتها بشكل أكثر راحة. عندها سيتمكن الجميع من إفراغ ما في جعبتهم. ماذا يوجد في جعبتك؟ دعنا نرى. الآن الجميع يحاول قراءة النوايا. أي أننا نقرأ النوايا. إذن ماذا نفعل لحل هذه القضية؟ ماذا يجب أن يحدث حتى تُحل القضية الكردية؟ هذه مجالات غامضة جدًا ويجب مناقشتها ببرودة أعصاب. كما قلت، المجتمع الكردي مجتمع يضم أشخاصًا من كل الطوائف والآراء، من أكثر المتعصبين إلى أكثر الليبراليين، ولديهم آراء مختلفة في هذا المجال.
بين الأكراد، هناك اختلافات في المعتقدات والمذاهب، وعوامل مختلفة. هناك أحزاب وبيئات أيديولوجية. في هذا السياق، فإن اختزال الموضوع بمصطلح “الأكراد” يحوّل كلاً من الأطراف المعنية والاختلافات في المشكلات والحلول إلى أرضية اختزالية. ما هي الأرضية والأسلوب الذي تعتقد أنه سيكون أكثر فعالية في تحقيق نتائج؟
هذا سؤال قيم حقًا. كما تعلمون، هذا في الواقع نوع من التكاملية المتشددة. أي أن اختزال كل شيء ووضعه في كيس واحد، والتعامل مع الجميع وكأنهم متشابهون ومتماثلون، هو نهج فاشي. الأكراد يعيشون منذ فترة طويلة تحت هذا الضغط التكاملي المتشدد والفاشي من كلا الجانبين. وبالمثل، عاشت السياسة التركية هذا الوضع خلال فترة الوصاية. أي أنه تم فرض سياسة تعمل على أساس معضلة الخيانة والولاء على تركيا خلال فترة الوصاية. إذا انحرفت ولو بمقدار ملليمتر عن الرؤية التي وضعها الأوصياء، أي البيروقراطية العسكرية، فأنت تصبح خائنًا أو غير مخلص. هناك إملاء مماثل في السياسة الكردية، بل إنه إملاء مزدوج: من ناحية، هناك الكردية المقبولة التي يفرضها التنظيم، ومن ناحية أخرى، هناك الكردي المشبوه الذي تشكل بسبب تصور الإرهاب. وهذا يجبر المجتمع الكردي بأكمله على تبني تصور فاشي موحد، أحادي اللون. هذا غير صائب.وغير واقعي في نفس الوقت. أي أن المجتمع الكردي، مثل المجتمع التركي، هو مجتمع مسلم، ولكن فيه ملحدون، ويساريون، ويمينيون، ومتدينون، ومدافعون عن الشريعة. نعم، فيه كل هذا لأن الحياة هكذا، مزيج من الألوان. لذلك، فإن ظهور كل هذا التنوع في المجتمع الكردي، واختلاف الآراء والنهج، والسياسات المختلفة، وقدرتهم على التحدث وعرض برامجهم والحصول على موافقة المجتمع، هو أمر قيم. يجب التعامل مع الأمر بهذه الطريقة. وبالتالي، فإن هذه التصريحات، وهذه النوايا الحسنة، حتى لو جعلت القضية قابلة للنقاش على أرضية أكثر واقعية، فهي في حد ذاتها تحمل خيرا كبيرا في رأيي.