اخبار تركيا

في قلب الشرق الأوسط، حيث تتقاطع طرق الحضارات وتتشابك خيوط الأديان، ينساب مسار فريد يروي حكاية الإنسان منذ البدايات الأولى وحتى اليوم. إنه مسار إبراهيم، الطريق الثقافي الذي يتبع خطوات النبي إبراهيم، الشخصية المحورية التي يجتمع على احترامها المسلمون والمسيحيون واليهود، أي ما يقارب نصف سكان العالم.

هذا المسار لا يقدم مجرد رحلة جغرافية بين المدن والقرى، بل يفتح أبواباً للتأمل في جذور الإنسانية المشتركة، عبر طريق يمتد لأكثر من ألف كيلومتر، تبدأ أولى خطواته في تركيا.

شانلي أورفا: مدينة الأوائل والأساطير

ينطلق المسار من شانلي أورفا، المدينة التي يحيط بها عبق الأساطير والتاريخ. أورفا ليست مجرد نقطة على الخريطة؛ إنها مدينة تُلقَّب بـ”مدينة الأنبياء”، وتُروى عنها حكايات تعود إلى فجر الإنسانية. بعض الأساطير تزعم أن قصتها بدأت منذ وصول آدم وحواء إلى هذه الأرض، وكأنها شاهد حي على البدايات الكبرى للإنسان.

في شوارعها القديمة، تختلط الأصوات مع روائح الأسواق الشرقية، فيما تهمس جدرانها بقصص حضارات متعاقبة. أورفا مدينة تُجبر زائرها على إعادة التفكير في ما يعرفه عن التاريخ، إذ تمنح مع كل خطوة فرصة جديدة للتأمل في علاقة الإنسان بالأرض والسماء.

حران: تقاطع الطرق ومدينة القمر

على بعد خمسين كيلومتراً جنوب أورفا، يصل المسافر إلى حران، المحطة التالية على المسار. هذه المدينة العريقة تعود جذورها إلى سبعة آلاف عام، وكانت عبر التاريخ نقطة استراتيجية على تقاطع الطرق التي ربطت دمشق ونينوى وكركميش.

حران ليست مجرد موقع أثري؛ إنها مدينة حية تعكس أصداء الحضارات الآشورية والرومانية. في تلك الفترات، تحولت إلى مركز ديني لعبادة إله القمر “سين”، ما جعلها قبلة للحكام والجنود والكهنة على السواء. حتى اليوم، يمكن للزائر أن يتخيل مشاهد القوافل التجارية والجنود الذين مروا من هنا، تاركين بصمتهم على رمالها وأبراجها الطينية الشهيرة.

غوبكلي تبه: نقطة الصفر للتاريخ

وجهة المسار في تركيا تتوج عند غوبكلي تبه، الموقع الأثري الفريد المُدرج على قائمة اليونسكو للتراث العالمي. يطلق الباحثون على هذا المكان وصف “نقطة الصفر للتاريخ”، إذ يعود إلى نحو 9000 سنة قبل الميلاد، ما يجعله أقدم من أهرامات مصر بآلاف السنين.

بدأت أعمال التنقيب هنا في التسعينيات، وما زالت مستمرة حتى اليوم، لتكشف للعالم عن منحوتات ضخمة وأعمدة حجرية مذهلة تحمل نقوشاً لحيوانات ورموز غامضة. اللافت أن هذه الأعمال الفنية نُحتت بأدوات حجرية فقط، في غياب أي أثر للمعادن، ما يعكس عبقرية الإنسان الأول وإصراره على ترك بصمة تتجاوز حدود الزمن.

أفضل الأوقات للسير على المسار

المشي على مسار إبراهيم ليس مجرد رحلة سياحية، بل تجربة روحية وثقافية. وللاستمتاع بهذه التجربة، ينصح بزيارة المنطقة في الربيع أو الخريف، حيث تكون الأجواء معتدلة وملائمة للتجوال. أما الشتاء، فهو قارس البرودة، بينما يجعل الصيف الحرارة المرتفعة صعبة على هواة السير لمسافات طويلة.

رحلة تتجاوز الحدود

يمتد مسار إبراهيم خارج تركيا، مارّاً عبر الأردن وفلسطين وصولاً إلى صحراء النجف، ليشكل خيطاً روحياً وجغرافياً يربط بين شعوب وأديان وثقافات مختلفة. إنه ليس مجرد طريق، بل جسر حي بين الماضي والحاضر، بين الأسطورة والحقيقة، وبين الإيمان والإنسانية.

المسافر على هذا الطريق لا يزور أماكن فقط، بل يخوض تجربة تعيد صياغة علاقته مع ذاته ومع التاريخ، لتصبح كل خطوة بمثابة تأمل عميق في وحدة البشرية وتنوعها في آن واحد.

المصدر: موقع Go Türkiye الترويجي التركي الرسمي

شاركها.