معادلة إقليمية جديدة.. كيف يعيد التقارب التركي السعودي رسم خريطة النفوذ؟

اخبار تركيا
سلّط مقال تحليلي الضوء على تداعيات ونتائج التقارب التركي السعودي المتزايد خلال السنوات الأخيرة، وأثره على إعادة تشكل المعادلة الإقليمية وخريطة النفوذ في المنطقة.
وقالت الكاتبة ربى خدام الجامع في مقالها على موقع “المجلس الأطلسي”، إنه منذ أن أنهت تركيا فترة التوتر الحاد مع عدد من دول الخليج في عام 2021، حسنت أنقرة علاقاتها مع كل دول المنطقة، وخاصة مع السعودية، وهكذا وضعت أنقرة والرياض خلافاتهما القديمة جانباً وطورتا علاقاتهما الاستراتيجية.
وأضاف: والآن، تحولت عملية إعادة إعمار سوريا بعد الأسد إلى فرصة أمام تركيا والسعودية لتطوير علاقاتهما بنسبة أكبر، إذ بعد أن نصب أحمد الشرع نفسه حاكماً جديداً على سوريا، زار السعودية وتركيا في أول زيارتين له خارج البلد، وفي ذلك خير دليل على الدور المهم الذي من المتوقع لكلا البلدين أن تلعباه في سوريا الجديدة.
وفيما يلي تتمة المقال الذي نشره موقع “تلفزيون سوريا”:
ومن المرجح للشرع أن يظهر نية القيادة السورية الجديدة للنأي بنفسها عن إيران والسعي لاستقطاب الاستثمارات السعودية التي باتت سوريا بأمس الحاجة إليها.
يذكر أنه أصبح لتركيا اليد العليا في سوريا عقب سقوط نظام الأسد، ولذلك وصفها كثير من المحللين بأنها البلد الذي من المرجح أن يكون له أكبر تأثير على مستقبل سوريا، ولكن، وبخلاف توقعات بعض المحللين، لم تستعن تركيا بمكانتها فحسب لتوسيع نفوذها، بل سعت عوضاً عن ذلك لوضع سياسة دبلوماسية متينة مع دول الخليج والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وذلك حتى تشارك في رسم مستقبل سوريا بما يضمن أمن المنطقة واستقرارها.
وللبحث في أسباب حالة المشاركة هذه والهدف المشترك في السياسات التركية والسعودية تجاه سوريا، ما علينا إلا أن نبحث فيما قاله وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، الذي أعلن في كانون الأول من العام الفائت، بأنهم لا يريدون: “هيمنة إيرانية في المنطقة ولا هيمنة تركية أو عربية”.
وكما ألمح وزير الخارجية التركي في تصريحاته، فإن تركيا بوسعها تحقيق أهداف في سوريا المزدهرة بعد الحرب على أكمل وجه وضمن منطقة مستقرة، وذلك عبر التعاون والتنسيق مع دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. كما أن زيادة التعاون مع دول الخليج لابد لها أن تقوي شرعية تركيا بالنسبة لمشاركتها في مستقبل سوريا، مع مساهمتها في تأمين الأموال اللازمة لإعادة إعمار سوريا.
ما الذي أظهرته سوريا؟
خلال الربيع العربي، اختلفت تركيا مع السعودية في نهجيهما تجاه قضية الإسلام السياسي، إذ في الوقت الذي اعتبرت السعودية الثورات العربية تهديداً لاستقرار المنطقة، دعمت تركيا معظم تلك الثورات، وعلى الرغم من قلق السعودية، فإنها دعمت الثورة في سوريا لوقوفها ضد الدكتاتور بشار الأسد، ولأن هدفها التصدي للنفوذ الإيراني.
ولكن بخلاف تركيا، دعمت السعودية فصائل داخل الجيش السوري الحر، وهذه الفصائل لم تكن ة بحركة الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة، إلى جانب دعمها لشخصيات سياسية علمانية ووطنية لا تعتنق الإسلام السياسي نهجاً لها. ولم يخف حكام الخليج قلقهم تجاه الخلفية الجهادية للقيادة السورية الجديدة والطريقة التي وصلت بها إلى السلطة والتي قد تعتبر بمنزلة عودة للإسلام السياسي في مختلف أنحاء المنطقة.
وبما أن تركيا كانت على دراية بتلك المخاوف، لذا فإنها دعت دول الخليج وعلى رأسها السعودية والإمارات عقب سقوط الأسد للاستثمار في مستقبل سوريا، وقد تجلى ذلك باللقاءات المتكررة التي جرت بين وزير الخارجية التركي ونظرائه الخليجيين، كما حرصت تركيا على لعب دور الوسيط عبر مساعدتها لحكام سوريا الجدد على تطوير علاقاتهم مع دول الخليج، فأصبحت السعودية أول دول خليجية تقيم علاقات رسمية مع سوريا بعد الأسد، كما طالبت المجتمع الدولي برفع العقوبات عن سوريا تماماً كما فعلت تركيا.
هنالك مصلحة مشتركة في استقرار سوريا وازدهارها لدى كل من تركيا والسعودية، بما أنهما الدولتان الوحيدتان العضوتان في مجموعة العشرين ضمن هذه المنطقة، كما أن كلتيهما شريكتان مهمتان للولايات المتحدة، ولهذا لابد أن تسعى كل منهما للعب دور مهم في عملية إعادة إعمار سوريا التي تعتبر عملية مهمة ليس فقط من أجل مستقبل سوريا بل أيضاً من أجل استقرار منطقة الشرق الأوسط برمتها.
لدى كل من تركيا والسعودية الرغبة بأن تريا سوريا موحدة ومستقرة وبعيدة كل البعد عن تحولها إلى بؤرة للإرهاب، وكلتاهما ترغبان بمنع إيران من العودة لمد نفوذها في سوريا ولبنان، إلى جانب تصديهما للنفوذ الإيراني في العراق، ولا يمكن لذلك أن يتحقق من دون إدارة سورية قائمة على التشاركية بحيث تحظى كل الجماعات الدينية والعرقية في البلد بتمثيل ضمن تلك الحكومة، وتعتبر هذه التشاركية هدفاً مشتركاً بين مختلف دول المجتمع الدولي، وعلى رأسها تركيا والسعودية، إذ لدى هاتين الدولتين مصلحة في تأمين السلام لسوريا مع قدرتها على التعافي والانتعاش على المستوى الاقتصادي، لأن هذا ما سيتيح للاجئين السوريين المقيمين في تركيا والسعودية العودة بسلام إلى بلدهم.
كشفت إعادة بناء سوريا من جديد بأن لدى كل من تركيا والسعودية مصالح مشتركة تستوجب تعاونهما على هذا الصعيد، وقد أتاح ذلك فرصة لأنقرة والرياض حتى تطورا علاقتهما، وخاصة في مجال الدفاع، بما أن هذا الملف يعتبر ضرورياً لأمن المنطقة.
فرصة سانحة
ضمن رؤية السعودية 2030، تسعى الرياض لتنويع مصادرها الأجنبية ضمن مجال واردات الدفاع إلى جانب تقوية صناعتها الدفاعية المحلية. فلقد تحسنت العلاقات الدفاعية التركيةالسعودية بشكل كبير منذ تطبيع علاقاتهما في عام 2021، عندما قبلت السعودية بالعروض التركية في مجال مشاركة التقانة، مع إتاحة الفرصة أمام الشركات السعودية للمشاركة في الإنتاج المحلي.
بقيت تركيا تعاني طوال عقود في شراء العتاد الدفاعي الذي تريده من الولايات المتحدة والدول الأوروبية، ويعود سبب ذلك للحظر والعقوبات الرسمية وغير الرسمية التي فرضت على أنقرة، وتلك العوائق هي التي دفعت لتطور صناعة الدفاع المحلية في تركيا، فأصبح ترتيبها الحادي عشر ضمن أكبر الدول المصدرة للسلاح على مستوى العالم.
ومقارنة بالفترتين ما بين 2014 2018، و2019 2023، ارتفعت حصة تركيا في صادرات الأسلحة عالمياً بنسبة 106%، وفي ظل هذا النمو، زادت تركيا من صادرات أسلحتها إلى عدد كبير من دول مجلس التعاون الخليجي، وعلى رأسها السعودية، والغالبية العظمى من تلك الصادرات ضمت مسيرات قتالية.
وبالطريقة ذاتها تشجعت السعودية على الحد من اعتمادها على الغرب فيما يتصل بسد حاجاتها الدفاعية، واعتمدت في ذلك على مصاعب عانت منها في السابق بالنسبة للحصول على ما تريده من عتاد من شركائها الغربيين، ولهذا أبرمت السعودية مع تركيا اتفاقيات لتصنيع المعدات الدفاعية وشرائها، شملت إحداها اتفاقية ركزت على التعاون في مجال إنتاج المسيرات القتالية المسلحة التي تعرف باسم ببيرقدار آكينجي.
وهذا التعاون بين السعودية والشركة التركية المصنعة لتلك المسيرات لم يساعد السعودية على تعزيز إمكانيات تصنيع معدات الدفاع محلياً فحسب بل أسهم أيضاً في ردع إيران والتصدي للنفوذ الذي حققته الصين في الشرق الأوسط من خلال مبيعات أسلحتها إلى تلك المنطقة.
ولكن ثمة فرص تعاون أخرى بدأت بالظهور الآن، ولذلك تتوقع تركيا أن تبرم صفقة أسلحة مع السعودية بقيمة ستة مليارات دولار تشمل بيع بوارج حربية ودبابات وصواريخ، كما قد تبرم تركيا أيضاً صفقة خاصة ببيع طائراتها المقاتلة من نوع TF KAAN للسعودية، بعد أن أبدت الرياض اهتمامها بشراء مئة طائرة من هذا النوع خلال العام الفائت بعدما بقيت تراوح مكانها ضمن نقاشات مطولة بخصوص شراء طائرات إف 35 المقاتلة من الولايات المتحدة.
وبدأت تركيا العمل على تطوير طائرات مقاتلة ليس فقط لتحل محل أسطولها المؤلف من طائرات إف 16 العتيقة، بل أيضاً لضمان حصول تركيا على كل ما تحتاجه مع عتاد على الرغم من التجميد الذي فرضه الكونغرس على مبيعات الأسلحة الأميركية والقرار الأميركي القاضي بإخراج تركيا من برنامج شراء طائرات إف 35 المقاتلة والهجومية في عام 2019.
ومن المتوقع للقوات الجوية التركية أن تستلم أول عشر طائرات من نوع KAAN في عام 2028. لذا فإن شراء الطائرات الحربية التركية قد يساعد السعودية أيضاً على تطوير صناعاتها الدفاعية المحلية، بما أنه بوسع هذه الدولة أن تطلب إقامة أجزاء من خط إنتاج تلك الطائرات في السعودية.
إن رفع مستوى التعاون الدفاعي من خلال مبيعات الأسلحة بين تركيا ودول الخليج (وعلى رأسها السعودية)، قد يغير من ديناميات توريد السلاح في المنطقة، بما يسهم في نشر الأمن والاستقرار إقليمياً.
ما أهمية ذلك بالنسبة للشرق الأوسط والولايات المتحدة؟
إذا رغبت الولايات المتحدة بتعزيز مصالحها الاستراتيجية في المناطق التي من المرجح للإدارة الجديدة إخراجها من قائمة أولوياتها، وعلى رأسها الشرق الأوسط، فإنه سيتعين عليها إقامة مراكز ثقل إقليمية عبر الأخذ بعين الاعتبار لاحتياجات القوى المتوسطة والعمل على إدماجها. وشركاء الولايات المتحدة، مثل تركيا والسعودية، من بين أهم القوى المتوسطة الصاعدة في المنطقة، ومن مصلحة واشنطن أن تجمع بين أهم دولتين شريكتين لها في المنطقة لتعملا على احتواء النفوذ العسكري لإيران والاقتصادي للصين.
في مقالة كتبها جورج فريدمان عن احتمال قيام اتفاق نووي بين الولايات المتحدة وإيران، تحدث هذا الرجل عن أنجع وسيلة لخلق قوة توازي إيران بحيث تشكل حالة توازن معها، وذلك عبر إقامة تكتل بين دول الخليج، على أن تترأسه السعودية، وبين إسرائيل، وأضاف بأن هذا التكتل لن ينجح إلا بعد انضمام تركيا إليه.
ثمة عوائق جديدة تقف في طريق إقامة هذا التكتل، ومن بينها هجوم السابع من تشرين الأول لعام 2023 وما تلاه من حرب لإسرائيل على قطاع غزة، بيد أن التقارب التركي السعودي يعد خطوة راسخة نحو خلق حالة توازن إقليمية واحتواء النفوذ الإيراني.