اخبار تركيا

يشهد حزب الشعب الجمهوري (CHP) أكبر أحزاب المعارضة في تركيا، مرحلة من الاضطراب الداخلي غير المسبوق، إذ بات نزيف الكوادر والاستقالات المتلاحقة يهدد مستقبله السياسي أكثر من ضغوط خصومه التقليديين، في وقت تتفاقم أزماته مع قضايا الفساد والانقسامات القيادية.

وفي نهاية مارس/آذار 2024 حقق حزب الشعب الجمهوري فوزا كبيرا في الانتخابات بنسبة تناهز 38%، متقدما على حزب العدالة والتنمية لأول مرة منذ أكثر ما يقرب من عشرين عاما، كما نجح في الفوز برئاسة أغلبية البلديات الكبرى، وفي مقدمتها إسطنبول، وأنقرة، وإزمير، وأنطاليا، وغيرها.

ذلك الإنجاز المفاجئ أعطى للحزب دفعة لتطوير أهدافه وطموحاته، حيث بدأ يتطلع بقوة للفوز بالرئاسة والبرلمان، مدفوعا بالوضع الاقتصادي الصعب الذي تمر به تركيا، بسبب برنامج الإصلاح القاسي الذي وضعه وزير المالية، محمد شيمشك، ويحظى بدعم واضح من الرئيس رجب أردوغان، بحسب مقال للكاتب سمير العركي على موقع “الجزيرة نت”.

وفيما يلي تتمة المقال:

لكن لسوء حظ الحزب أن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية سيحل موعدها منتصف عام 2028، وكما يقال في تركيا فإن 24 ساعة في السياسة التركية طويلة جدا، فما بالنا بهذه السنوات.

كان حزب الشعب يدرك أن أردوغان بمقدوره تصحيح الكثير من أخطاء حزبه، وأن برنامج الإصلاح الاقتصادي سيؤتي ثماره، وخاصة على صعيد انخفاض نسب التضخم والفوائد البنكية والبطالة… إلخ وهو ما يحدث حاليا بالفعل.

لذا حاول الحزب الضغط في اتجاه انتخابات مبكرة لكنه فشل، في الوقت الذي لم تنجح فيه جهود تطبيع العلاقات التي بدأها أردوغان وتوجت بزيارات متبادلة لمقري حزبي العدالة والتنمية والشعب الجمهوري، قام بها أردوغان ورئيس حزب الشعب، أوزغور أوزيل.

لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، إثر تفجر قضايا فساد مالية مطلع العام الحالي، اتهم فيها رؤساء بلديات ينتمون لحزب الشعب، بلغت ذروتها مارس/آذار الماضي عندما اعتقلت قوات الأمن التركية، رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، وقرابة مائة آخرين، من بينهم رؤساء بلديات فرعية، على ذمة قضايا تتعلق بتلقي رِشًا والتلاعب في المناقصات، كما يتعلق بعضها بالإرهاب.

كان اعتقال إمام أوغلو ومن معه، بمثابة ضربة البداية، إذ استمرت حملة الاعتقالات بحق آخرين مع توالي اعترافات الموقوفين، الأمر الذي فتح الباب واسعا لاستنزاف حزب الشعب، تزامنا مع تفجر مشاكله الداخلية.

نزيف حزب الشعب

الملاحظة الجديرة بالتسجيل أولا، أن ملفات حزب الشعب المنظورة أمام القضاء، لم يكن للحكومة يد فيها، فالدعاوى والشهود والأدلة أتت كلها من داخل الحزب، لتصفية المشاكل الداخلية، وترجيح جناح على حساب جناح آخر، مثلما كان الوضع بالنسبة لقضايا الفساد.

ففي أحدث حلقات الصراع الداخلي، قضت إحدى محاكم إسطنبول، بعدم قانونية مؤتمر الحزب الذي عقد 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وإبطاله تماما، والذي كان مخصصا لانتخاب رئيس الحزب في إسطنبول وأعضاء المجلس التنفيذي، وقالت المحكمة في قرارها؛ إن إرادة المندوبين تم إفسادها والتلاعب بها من خلال الوعود الممنوحة لهم بأموال وهواتف وأجهزة لوحية ووظائف مقابل أصواتهم.

وترتب على قرار المحكمة إيقاف رئيس الحزب في إسطنبول، أوزغور تشيليك، وتعيين لجنة مؤقتة بدلا منه برئاسة غورسيل تكين.

من هو الوصي الجديد؟

قوبل قرار المحكمة بتعيين غورسيل تكين وصيا مؤقتا على فرع حزب الشعب الجمهوري في إسطنبول بعاصفة من الرفض والاستهجان من جانب رئيس الحزب، أوزغور أوزيل.

رغم أن تكين ليس غريبا عن الحزب، بل يعد أحد القيادات الوازنة بما يملكه من تاريخ حزبي وبرلماني.

فقد تدرج داخل حزب الشعب حتى وصل إلى تولي رئاسة فرع الحزب في إسطنبول عام 2007، كما تولى منصب الأمين العام للحزب في الفترة من 2014 إلى 2016.

إضافة إلى مناصبه القيادية داخل الحزب، فقد انتخب تكين لعضوية البرلمان التركي من 2011 إلى 2023.

لكنه استقال من الحزب في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 إثر الإطاحة بكمال كليجدار أوغلو من رئاسة الحزب، وانتخاب أوزغور أوزيل بديلا عنه، إذ كان معروفا بقربه من كليجدار أوغلو، حيث عملا معا لفترة طويلة.

وهنا يكمن السبب الرئيسي وراء محاولة منعه من دخول مبنى الحزب في إسطنبول لممارسة مهام عمله، وفق قرار المحكمة، والتي وصلت إلى حشد المئات من أنصار الحزب أمام المبنى والدخول في مواجهات مع قوات الشرطة للحيلولة دون تنفيذ القرار.

يعد غورسيل من المحسوبين على جناح رئيس الحزب السابق، كليجدار أوغلو، الذي تمت الإطاحة به في انتخابات داخلية مثيرة للجدل ينظر القضاء في شأن إبطالها، ووجوده على رأس فرع الحزب في إسطنبول الذي يعد الأهم والأقوى في عموم تركيا، في تلك الظروف الحساسة التي يمر بها الحزب، لن يكون مقبولا لدى جناح أوزيل إمام أوغلو.

فمن المعروف أن فرع الحزب في إسطنبول يعد داعما قويا لإمام أوغلو، الذي حرص على هندسة قياداته والقائمين على تسيير أموره، كما امتدت تلك الهندسة إلى رؤساء البلديات الفرعية في إسطنبول، لكن كل هذا صار في مهب الرياح مع عودة غورسيل وصيا على الحزب، بما يملكه من خبرات داخلية كبيرة تؤهله لإعادة ترتيب الوضع الداخلي بما لا يشتهي إمام أوغلو القابع في السجن حتى الآن.

تكرار الأخطاء

في مواجهة الأزمة الحالية، يكرر رئيس الحزب، أوزغور أوزيل، ذات الأخطاء، دون الاستفادة مما سبق منها.

فعندما اعتقل إمام أوغلو في مارس/آذار الماضي لجأ أوزيل إلى الشارع للضغط على الحكومة للعدول عن قرارها، حيث تحولت المظاهرات الرافضة لاعتقال إمام أوغلو، إلى مواجهات عنيفة، خصوصا بعد انضمام مجموعات يسارية راديكالية إلى الاحتجاجات.

تلك المواجهات أسفرت عن اعتقال المئات، لا يزال بعضهم قابعا في السجن حتى الآن، وآثار اقتصادية سلبية قدرت بمليارات الدولارات، حيث تراجع الاحتياطي النقدي قبل أن يعاود الصعود مجددا في الآونة الأخيرة.

لكن لم تتراجع الحكومة عن إجراءاتها، بل توسعت في اعتقال متهمين جدد؛ بسبب الاعترافات التي أدلى بها الموقوفون.

وقبل فترة قليلة أعلن المدعي العام في إسطنبول، أكين غورليك، أنه بصدد إعداد لائحة الاتهام في القضية، التي وصفها بأنها الكبرى في تاريخ الجمهورية التركية منذ مائة عام.

إذن فشلت خطة أوزيل في استخدام الشارع، لمواجهة أزمة قضائية، كان يجب عليه أن يواجهها بأدوات قانونية لا بتنظيم احتجاجات عنيفة، تسببت في خسائر مادية امتد أثرها إلى المواطن العادي، في موازاة اعترافات كان يدلي بها الموقوفون اختياريا للاستفادة من تدابير العفو وتخفيف الأحكام، وهذه الاعترافات ولدت قناعة لدى المواطن غير المسيس أن الاتهامات بحق إمام أوغلو ومن معه يستحقون المحاكمة بشأنها، وليس الصدام مع الشرطة.

لكن أوزيل عاد اليوم ليواجه تعيين وصي على فرع الحزب بإسطنبول، باللجوء إلى الشارع ودفع أنصاره للصدام مع الشرطة مجددا، ورفض تنفيذ أحكام القضاء، حتى إنه قال في تصريح لصحيفة فايننشال تايمز:

“يمكننا الرد على الحكومة بطرق مختلفة. من بينها أعمال عصيان مدني سلمية وفعالة للغاية، من شأنها “شلّ الحياة” في تركيا.”

ولا أدري كيف يتوقع أوزيل الحصول على نتائج إيجابية، بنفس الوسائل التي أثبتت عدم فاعليتها، إضافة إلى أن الشارع الموالي له لم يعد بنفس الحماس والاندفاع الذي كان عليه عندما تم اعتقال إمام أوغلو.

فواجب الوقت بالنسبة له الآن أن يعمل على وقف النزيف اليومي للحزب، عبر الاستقالات المتتابعة لكوادره.

نزيف الحزب

حكم المحكمة بإبطال المؤتمر الانتخابي لفرع الحزب في إسطنبول، قد يمهد الطريق أمام حكم مماثل مرتقب لإبطال نتائج المؤتمر العام للحزب، الذي انعقد نوفمبر/تشرين الثاني 2023.

ما يعني الإطاحة بأزغور أوزيل من رئاسة الحزب وربما عودة كليجدار أوغلو مرة أخرى، أو تعيين وصي على الحزب.

ورغم ذلك السيناريو المتوقع، فإن الخسارة الأشد فداحة في تقديري، تتمثل في النزيف المستمر للحزب من خلال خسارته لكوادره، الذين تتوالى استقالاتهم يوما بعد الآخر.

ففي أغسطس/آب الماضي، أعلن حزب العدالة والتنمية خلال مؤتمره السنوي، انضمام مجموعة من رؤساء البلديات المنتمين لحزب الشعب الجمهوري إلى صفوفه، يأتي في مقدمتهم رئيسة بلدية آيدين، أوزلم تشرجي أوغلو، ما يعني انتقال رئاسة البلدية إلى الحزب الحاكم.

أيضا قبل أيام، أعلنت نائبة رئيس بلدية بيكوز، إحدى البلديات الفرعية في إسطنبول، أوزلام أورال غورزيل، استقالتها من حزب الشعب، فيما تتردد أنباء عن احتمالية انضمامها لحزب العدالة والتنمية، ما يعني انتقال رئاسة البلدية إليه، إذ تديرها أوزلام عقب اعتقال رئيسها، علاء الدين كوسلر، على ذمة تحقيقات الفساد.

هذا النزيف المستمر لا يقابل حتى الآن بإجراءات وقائية من جانب أوزيل ومعاونيه، رغم أن الخسارة مزدوجة، فالمستقيلون لا يكتفون بمغادرة الحزب، بل يذهبون طواعية للانضمام للحزب الحاكم، بأشخاصهم ومناصبهم التي انتخبهم الشعب على أساسها.

والخلاصة

يحتاج حزب الشعب الجمهوري إلى روشتة علاج للتعافي من آثار الفوضى التي ضربت جنباته على وقع قضايا الفساد والتلاعب الداخلي، وليس من المتوقع أن ينجح رئيس الحزب الحالي، أوزغور أوزيل، في القيام بهذه المهمة؛ لأنه صار جزءا من الأزمة الحالية.

ما يعني أن الحزب بات في حاجة ماسة للتغيير على مستوى القيادات والأفكار والأولويات.

شاركها.