غزوان المصري خاص اخبار تركيا

في خطوة وُصفت بالمفصلية في مشهد الطاقة الإقليمي، دشنت تركيا وأذربيجان وقطر وسوريا مطلع أغسطس/آب 2025 خط الغاز الطبيعي الجديد الذي يربط مدينة كيليس التركية بمدينة حلب السورية، في أول مشروع من نوعه منذ اندلاع الحرب السورية. يمثل هذا الخط أكثر من مجرد أنبوب لنقل الغاز، فهو إعلانٌ عن ولادة محور طاقة جديد يعيد رسم خريطة الشرق الأوسط، ويجعل من تركيا مركز توازن رئيسي بين آسيا وأوروبا والمشرق العربي.

يتيح المشروع نقل الغاز الأذربيجاني من حقل “شاه دنيز” في بحر قزوين، عبر الأراضي التركية، إلى شمال سوريا بتمويل قطري تجاوز 1.8 مليار دولار. وتشير بيانات وزارات الطاقة في الدول المشاركة إلى أن المرحلة الأولى تتيح تدفق نحو 3.4 ملايين متر مكعب يوميًا، على أن ترتفع الكمية إلى 6 ملايين متر مكعب مع اكتمال البنية التحتية داخل سوريا خلال عام 2026.

بوابة الغاز إلى المشرق

يعيد هذا المشروع إدماج سوريا في شبكة الطاقة الإقليمية بعد أكثر من عقد من الانقطاع، إذ سيُستخدم الغاز لتوليد الكهرباء في محطات حلب وتشرين وجندر، مما يرفع القدرة الإنتاجية إلى 1,700 ميغاواط ويضاعف ساعات التغذية من 3 ساعات يوميًا إلى نحو 10 ساعات. ويُتوقع أن يساهم ذلك في إنعاش المصانع والمنشآت الصناعية وخلق آلاف فرص العمل في شمال سوريا.

وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار أكد أن بلاده لا ترى في الخط مجرد مشروع اقتصادي، بل جزءًا من “خطة القرن التركي للطاقة”، التي تهدف لجعل تركيا مركز عبور عالمي للطاقة بين الشرق والغرب. هذه الخطة التي بدأت مع ممر الغاز الجنوبي (TANAP) وامتدت إلى خطوط الغاز الروسي (التركي ستريم)، تتوسع اليوم نحو الجنوب عبر سوريا، لتفتح بوابة جديدة نحو أسواق الشرق الأوسط والخليج.

بين قزوين والمتوسط.. شبكة متكاملة

يرتبط خط كيليسحلب بممر الغاز الجنوبي الممتد من بحر قزوين إلى أوروبا، بطول يفوق 3,500 كيلومتر، ويتكامل مع شبكة خطوط الطاقة التركية القادمة من روسيا وإيران، ما يجعل أنقرة اليوم العقدة الأهم في شبكة الغاز الأوراسي. ومع تشغيل الخط الجديد، أصبحت تركيا الدولة الوحيدة التي تربط بين ثلاث شبكات طاقة كبرى: الغاز الروسي القادم من الشمال، والغاز الأذربيجاني من الشرق، وغاز شرق المتوسط من الجنوب.

وتسعى أنقرة من خلال هذا المشروع إلى تقليل الاعتماد على الغاز الروسي الذي يشكل نحو 40% من وارداتها، عبر تنويع مصادر الإمداد وتعزيز دورها كممر للطاقة إلى أوروبا والشرق الأوسط معًا. ومن جهة أخرى، يمنح المشروع سوريا منفذًا جديدًا ومستقرًا بعيدًا عن خطوط الإمداد الإيرانية أو الروسية، مما يخلق توازنًا جديدًا في النفوذ داخل البلاد.

التمويل القطري وتقاطعات المتوسط

الجانب القطري لعب دورًا مركزيًا في تمويل المشروع، في إطار رؤية الدوحة لدعم إعادة الإعمار في سوريا وتعزيز حضورها الاقتصادي في المشرق. فقد أعلن صندوق قطر للتنمية أن إجمالي مساهماته في مشاريع الطاقة السورية تجاوز 760 مليون دولار في مرحلتي الكهرباء والغاز، بهدف رفع ساعات التشغيل وتحسين الخدمات العامة.

لكن الأهمية الأوسع للمشروع تكمن في تقاطعه مع مشهد الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث تتنافس تركيا وإسرائيل ومصر ولبنان على تصدير الغاز نحو أوروبا. فبينما تسعى إسرائيل ومصر لمد أنبوب عبر اليونان، تقدم تركيا عبر هذا المشروع نموذجًا آخر أكثر استقرارًا وأقل تكلفة، يربط مباشرة بين حوض قزوين والشرق الأوسط دون المرور بالمياه المتنازع عليها في المتوسط.

تحالف الغاز الثلاثي

التحالف الثلاثي بين تركيا وقطر وأذربيجان، الذي أطلق هذا المشروع، يعكس تلاقي مصالح اقتصادية وسياسية متشابكة. فأنقرة تسعى لتوسيع دورها كمركز إقليمي للطاقة، والدوحة تبحث عن استثمارات استراتيجية تعزز حضورها بعد أزمة 2017، أما باكو فترى في المشروع منفذًا جديدًا لتعزيز صادراتها خارج السوق الأوروبية المشبعة. ومن جانبها، تجد دمشق في التعاون مع هذه الدول فرصة لإعادة بناء قطاع الطاقة المتهالك وتخفيف الضغط الشعبي والاقتصادي.

هذا التحالف يعيد إلى الأذهان تحركات تركية سابقة لتعزيز دورها في “الممر الأوسط للطاقة”، الممتد من الصين مرورًا بوسط آسيا وتركيا وصولًا إلى أوروبا، والذي يهدف إلى خلق بديل بري مستقر لممرات الطاقة البحرية التقليدية التي تمر عبر قناة السويس أو مضيق هرمز.

البعد الاقتصادي والسياسي

تقدّر دراسات تركية أن المشروع سيرفع الناتج المحلي السوري بنسبة 3% خلال عام 2026، نتيجة تحسن التغذية الكهربائية وعودة النشاط الصناعي في حلب ومحيطها. كما سيحقق لتركيا عائدات من رسوم العبور تتراوح بين 100 و150 مليون دولار سنويًا، فيما ستُخصص نسبة منها لصندوق إعادة الإعمار في شمال سوريا بإشراف تركيسوري مشترك.

سياسيًا، يمثل المشروع بداية مرحلة استقرار طاقي تعزز الاستقرار الأمني في سوريا والمنطقة. فوجود شبكة طاقة موحدة تربط أنقرة ودمشق وباكو والدوحة يخلق واقعًا جديدًا في الشرق الأوسط، حيث يُعاد ترتيب النفوذ بناءً على المصالح الاقتصادية لا الانقسامات السياسية.

نحو خريطة طاقة جديدة

هكذا، لا يُعد ممر كيليسحلب مجرد مشروع بنية تحتية، بل علامة على ميلاد خريطة طاقة جديدة في الشرق الأوسط. فبينما كان الغاز الروسي يسيطر على أوروبا، والغاز الإسرائيلي والمصري يتجه نحو الغرب، تظهر الآن بوابة ثالثة من بحر قزوين عبر الأناضول إلى سوريا والمشرق العربي.

بهذا المشروع، تُثبت تركيا مرة أخرى أنها ليست مجرد بلد عبور، بل **دولة صانعة للتوازنات الطاقية** في المنطقة، وأن الغاز بات لغةً جديدة للتقارب الإقليمي بعد عقد من الصراعات.

عن الكاتب


شاركها.