قطب العربي الجزيرة مباشر
خلال أسبوع واحد تلقّى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ضربتين موجعتين، إحداهما من عاصمة الشرق التاريخية إسطنبول، والثانية من عاصمة المال والسياسة في العالم نيويورك، وكلتاهما حظرتا سفره إليهما، وتوعدتاه بالاعتقال فور وصوله إلى أي من مطاراتها تنفيذًا لقرار المحكمة الجنائية الدولية، ولمحاسبته على جرائم الإبادة التي ارتكبها ولا يزال بحق الشعب الفلسطيني في غزة وغيرها.
لم يكن فوز زهران ممداني (محمداني) بمنصب عمدة مدينة نيويورك حدثًا محليًا محضًا، بل زلزالًا عالميًا، أصاب قلب الاحتلال الإسرائيلي بشكل خاص، ذلك أن الرجل جعل أحد عناوين حملته الانتخابية التنديد بحرب الإبادة في غزة، وتعهد باعتقال نتنياهو حال وصوله إلى نيويورك التي تحتضن مقر الأمم المتحدة، كما تحتضن أكبر جالية يهودية في العالم، وقد حصد ممداني أصوات ثلث تلك الجالية، فيما صوّت ثلثاها لصالح منافسه.
بعد 48 ساعة فقط من فوز ممداني جاءت الضربة الثانية لنتنياهو من إسطنبول، حيث أصدر مكتب المدعي العام فيها مذكرات توقيف بحق نتنياهو و36 مسؤولًا إسرائيليًا آخر، بينهم وزير الدفاع يسرائيل كاتس، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ورئيس الأركان العامة إيال زامير، وقائد القوات البحرية ديفيد سار سلامة، بتهمة ارتكاب إبادة جماعية بشكل ممنهج في غزة، تسببت في فقدان آلاف الأشخاص، بمن فيهم نساء وأطفال، وتدمير غالبية القطاع.
بينما استند ممداني إلى مذكرة التوقيف الصادرة من المحكمة الجنائية الدولية، فإن مكتب المدعي العام التركي استند إلى القانون المحلي (المادتين 76 و77 من قانون العقوبات المختصتين بالجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية). وفي ذلك رسالة أكثر جدية ودرجة إلزام أكبر للمسؤولين التنفيذيين الذين قد يتعرضون للمحاكمة حال تقاعسهم عن تنفيذ هذا الطلب، بينما تتراخى الكثير من الدول في تنفيذ قرارات المحكمة الجنائية الدولية وفقًا لتقديراتها السياسية.
استند قرار التوقيف التركي أيضًا إلى جريمة قتل الطفلة هند رجب في 29 يناير/كانون الأول 2024 على يد جنود إسرائيليين بإطلاق 335 رصاصة، وإلى جريمة قتل 500 مدني في مستشفى الأهلي المعمداني في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وإلى جريمة قصف مستشفى الصداقة التركي الفلسطيني في 21 مارس/آذار 2025، ولما تعرّض له أسطول الصمود الدولي في المياه الدولية من قرصنة إسرائيلية، معتبرًا أن الهجوم في المياه الدولية يخالف اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، ويخالف المادة 15 من قانون الإجراءات الجنائية التركي رقم 5271، والمادتين 12 و13 من قانون العقوبات التركي رقم 5237.
قرار القضاء التركي هو جزء من موقف تركي وطني جامع مناهض للعدوان الإسرائيلي على المستويين الشعبي والرسمي. ظهرت تجلياته في حراك شعبي واسع وتظاهرات حاشدة في معظم إن لم يكن كل الولايات التركية، وخاصة العاصمة السياسية أنقرة، والاقتصادية إسطنبول. كما ظهر في حركة المقاطعة الشعبية الواسعة للمنتجات الإسرائيلية ومنتجات الشركات العالمية الداعمة للعدوان، وحركة دعم وإغاثة لأهالي غزة عبر العديد من الجمعيات الأهلية التركية التي تمكنت بالفعل من الوصول إلى غزة والمساهمة في تقديم المساعدات الغذائية والطبية والسكنية.
ومن أبرز مظاهر الموقف الرسمي قرار الحكومة بوقف التبادل التجاري مع الكيان الصهيوني، ناهيك عن انضمام تركيا إلى الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد الكيان في محكمة العدل الدولية، والمشاركة التركية الرسمية النشطة في كل المحافل الدولية ضد العدوان دعمًا للشعب الفلسطيني. وبشكل عام فإن دعم القضية الفلسطينية هو أحد القضايا محل التوافق السياسي التي لا خلاف فيها بين الحكم والمعارضة وبقية مؤسسات المجتمع، بل على العكس نجد مزايدات من كل الأطراف على بعضها في دعم هذه القضية.
الطعنة الأحدث للكيان وحكومته جاءته من مأمنه في نيويورك، التي كانت دومًا الداعم الأكبر سياسيًا وماليًا له. لم يقتصر الأمر على تهديد ممداني باعتقال نتنياهو حال وصوله إلى المدينة وهو تهديد على المحك لكنه تجاوز ذلك إلى رؤية أوسع للقضية الفلسطينية والعلاقة مع الكيان الصهيوني.
فممداني وما يمثله من تيار شبابي صاعد في نيويورك وبقية الولايات الأمريكية يرى أن ما يحدث في غزة هو إبادة جماعية على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي، كما أن ممداني رفض الاعتراف بصفة يهودية للكيان الصهيوني، بل وصل به الأمر إلى القول: «لن أعترف بحق إسرائيل في الوجود، أو أي دولة تمارس تمييزًا عنصريًا على أساس الدين أو العِرق». كما اعتبر السياسة الأمريكية غير عادلة تجاه الكيان في ظل قتل المدنيين، وانتقد علاقة إدارة ترامب بإسرائيل، بالقول إن هذه السياسة «تمكّن دولة تحتل وتخرق القانون الدولي، دون محاسبة».
هذه تعبيرات جديدة في نيويورك وغيرها من المدن الأمريكية، وهي جزء من حالة وعي جديدة صنعها طوفان الأقصى، وما تلاه من حرب إبادة إسرائيلية ضد قطاع غزة استفزّت أصحاب الضمائر الحية، وكان من ثمارها فوز ممداني وآخرين بمناصب عمد وأعضاء مجالس عمد في العديد من المدن الأمريكية مؤخرًا.
معركة الحصار الدولي لنتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت بدأت بشكل قوي بصدور مذكرة توقيف من المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية قبل عام، وطبقًا لتلك المذكرة من المفترض أن تلتزم بتنفيذها الدول الموقعة على ميثاق روما المنشئ للمحكمة، وهذا يشمل 124 دولة عبر العالم، من بينها معظم دول أوروبا مثل فرنسا وإسبانيا وألمانيا وهولندا والمملكة المتحدة، ودول قارة أمريكا الجنوبية كالبرازيل والأرجنتين وكولومبيا، إضافة إلى كندا واليابان وكوريا الجنوبية ودول أمريكا الوسطى، كما تضم 33 دولة إفريقية في مقدمتها جنوب إفريقيا صاحبة الدعوى ضد الكيان..
علما أن المحكمة الجنائية الدولية رفضت في الثامن عشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي الاستئناف الذي قدّمته إسرائيل لإلغاء أوامر الاعتقال، ما يعني أن القرار لا يزال ساريًا وملزمًا للدول الأعضاء في ميثاق روما. ولهذا فإن نتنياهو اضطر مؤخرًا لتعديل خط سير طائرته إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة منتصف سبتمبر/أيلول الماضي تجنّبًا لاحتمالات توقيفه في بعض الدول الأوروبية التي أعلنت التزامها بتنفيذ قرار الجنائية الدولية.
