اخبار تركيا
تناول تقرير معمق للكاتب والخبير التركي نيدرت إيرسانال، تطور العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا في ظل الحرب الأوكرانية، مستعرضًا جذورها التاريخية منذ “البرقية الطويلة” لجورج كينان في 1946، والتي أرست أساس العداء الأمريكي تجاه الاتحاد السوفيتي، وصولًا إلى قمة مرتقبة بين الرئيسين ترامب وبوتين.
ويبحث المقال في احتمالات التوصل إلى مسار للسلام، ويستعرض المؤشرات السياسية والدبلوماسية المحيطة باللقاء، إلى جانب الأبعاد الجيوسياسية الأوسع، مثل تحركات الغرب شرقًا، ومحور التحالفات الجديدة في آسيا الوسطى والشرق الأوسط.
كما يشير الكاتب إلى البعد الاقتصادي العميق للمفاوضات، ويطرح تساؤلات حول ملامح نظام دولي جديد قد يتشكل في ظل هذه التغيرات. وفيما يلي نص المقال:
“في الاتحاد السوفيتي، ثمة قوة سياسية تؤمن بشدة، بعدم إمكانية تحقيق سلام دائم مع الولايات المتحدة، وبأن تأمين السلطة السوفيتية يتطلب زعزعة الانسجام الداخلي للمجتمع الأمريكي، وتدمير نمط حياتنا التقليدي، وتحطيم السلطة الدولية لدولتنا. هذه القوة السياسية تمثل واحدة من أكبر الشعوب في العالم، وتتمتع بسيادة كاملة على موارد أغنى الأراضي الوطنية في العالم، وهي مدعومة بقومية روسية عميقة وقوية”.
هذه الكلمات وردت في جزء صغير من “البرقية الطويلة” الشهيرة والمشؤومة والتي أرسلها جورج كينان، القائم بالأعمال الأمريكي في موسكو وهو أذكى وأروع دبلوماسي أعرفه إلى وزارة الخارجية في فبراير 1946.
لقد مرت سنوات طويلة جدًا على هذه السطور، لكن كل ما حدث في العلاقات الأمريكية السوفييتية الروسية والذي أثر على العالم حتى يومنا هذا، هو إلى حد ما نتيجة تلك البرقية.
والآن، في مساء الجمعة الذي كتبت فيه هذه السطور، سيلتقي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في محاولة سياسية لإنهاء الحرب الأوكرانية التي بدأت سياسيًا في عام 2014، وفعليًا في فبراير 2022 والتي تشير بعض التقديرات إلى أنها أسفرت عن مقتل وإصابة نحو مليون شخص.
ليس هناك طريق سهل أو مختصر لتحقيق ذلك، وإذا نظرنا إلى الروح الروسية المذكورة آنفًا، والأهم من ذلك إلى الروح الراسخة للمؤسسات الأمريكية والبريطانية والغربية، يبدو أن العداء الحاد لروسيا قد أصبح من سمات الأنجلوسفير. الفارق الوحيد هو أنهم ليسوا في السلطة في الولايات المتحدة.
هل يمكن أن نعتقد أن القضية ستنتهي حتى لو تم توقيع اتفاقيات سلام أو وقف إطلاق نار أو صفقات أو مقايضات ؟ ومن غير المرجح أن يحدث ذلك في هذه الجلسة.
بعد انعقاد المؤتمر الصحفي بين بوتين وترامب، ورصد التسريبات المتعلقة بالمحادثات الداخلية، سيكون من الأسهل تقييم نتائج هذا اللقاء، لكن في الوقت الحالي يبدو أنّ هناك ميلًا نحو تهدئة الوضع.
ولا ينبغي إيلاء اهتمام كبير للتصريحات الحادة التي يطلقها الطرفان قبل القمة. فهذه مجرد تحركات تمهيدية ومحاولات لزعزعة الطرف الآخر. وإلا فإن زيارة المبعوث الخاص ويتكوف لموسكو قد حدّدت بالفعل “النموذج” المعتمد.
وإذا نظرنا إلى جميع الظروف الشكلية، فإن زيارة زعيم دولة روسية إلى قاعدة أمريكية، والإعلان عن مؤتمر صحفي بعد اللقاء، والتصريح باحتمالية عقد قمة رباعية تضم بوتين، وترامب، وزيلينسكي، وأردوغان في إسطنبول على المدى القصير، كلها مؤشرات إيجابية. باختصار، هؤلاء القادة لا يجلسون على طاولة كبيرة عبثًا. هناك شيء سيُقدّم للعالم، ليس تسوية نهائية، لكنه مسار، ومنهج، وجدول زمني.
وهناك أوروبا؛ حيث تبدي بريطانيا في المقام الأول، ثم فرنسا وألمانيا، حالة من القلق. كما أن سياسة روسيا الرامية إلى “إنهاء أسباب الحرب” لا تزال قائمة، وهو ما يمثل النقطة الحاسمة في المشهد.
وإذا أردتم سماع شيء ملموس، فيمكن القول إن الجانب الأمريكي يُقدّر احتمال نجاح الاجتماع بنسبة 75٪. أما الجانب الروسي فكان أكثر حذرًا، فقد صرح الكرملين: “من الخطأ محاولة توقع نتائج الاجتماع…”
ومن المعروف أنّ الطرف “المتذمر” سيكون موسكو، إذ ترى أنّ الولايات المتحدة هي الطرف الذي يقطع العلاقات، وأن العودة إلى علاقات طبيعية ستكون صعبة حتى لو اعتُبر السلام في أوكرانيا خطوة في هذا الاتجاه. ومع ذلك لن يدفعوهم إلى حد الاستسلام.
ويمكن فهم موقف روسيا المتشدد بالنظر إلى وضعها الميداني وما مرت به في أوكرانيا، لكن لا ينبغي أن يُفسد هذا المشهد. صحيح أنّه لا يوجد نهاية معجزة، أو سلام مثالي، أو حل سحري، لكن يمكن اعتبار كلمات بوتين التالية على أنها مؤشر على النوايا القوية:
“هناك جهود قوية لوقف الأعمال العدائية، وحل الأزمة، والتوصل إلى اتفاقيات تخدم مصالح جميع الأطراف المعنية بهذا الصراع. الهدف ليس فقط إرساء شروط سلام طويل الأمد بين بلدينا فقط، بل في أوروبا كذلك، وحتى على الصعيد العالمي”.
علينا أن ندرك أن الموضوع يتعلق بأوكرانيا، لكن القضية الأساسية هي العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا، والشرق والغرب..
ولا حاجة إلى إعادة استعراض النهج الأميركي؛ فترامب يريد السلام ويرغب في إنهاء حرب أوكرانيا بالفعل. وما تبقى هو “البعد التقني”، المتعلق بترتيبات الأراضي وأسباب الحرب التي أشرنا إليها. ويبدو أنّ الخطوات الأولى قد اتخذت بالفعل، وأنّ الأطراف باتت تدرك أوراق بعضها البعض. كما أنّ إقناع الدول الأوروبية وأوكرانيا سيتم في هذا السياق.
أما الجزء المتعلّق بتركيا فيبدأ بعد ذلك بقليل..
لقد بات تقدّم الغرب ــ ونقصد هنا الولايات المتحدة ــ باتجاه الشرق أكثر وضوحاً.
فحرب أوكرانيا أعادت صياغة الاستراتيجية الغربية الموجهة نحو الشرق، بعد أن شهدت ارتباكاً خلال فترة بايدن، وكانت تلك الاستراتيجية تستهدف روسيا مباشرة. هذا المسار أفضى إلى ظهور خط دولي مناهض للولايات المتحدة. أما الآن، فكما أوضحنا سابقاً في الخريطة الجديدة التي سبق أن عرضناها، تُرسم ملامح ستار استراتيجي موحد في المنطقة، باستثناء القذارة الإسرائيلية.
ويتضح أكثر فأكثر محور يضم: أذربيجان وأرمينيا وباكستان وتركيا وسوريا والعراق والخليج. كما أنّ كلاً من جورجيا وأفغانستان في طريقهما للانضمام إلى هذا المحور. بل إنّ الولايات المتحدة عادت لتضع قدماً جديدة في أفغانستان.
هذا كله يهيئ أمامنا جغرافية استراتيجية أوسع تمتد من آسيا الوسطى حتى أوروبا. وفي المقابل، يجب أن نضع فوراً في الحسبان ملف روسيا وإيران. فإذا توصلت روسيا إلى اتفاق مع الولايات المتحدة ـ علماً أن هذه الخريطة يُفترض حالياً أنها أكثر ما يثير قلق الروس ـ يتعيّن علينا أن نتساءل سريعاً: هل نحن أمام احتمال بروز سياق استراتيجي جديد، ليس إقليميًا فحسب، بل عالميًا كذلك؟
وينبغي أن نضيف سؤالاً آخر أيضا: لماذا شارك هذا العدد الكبير من المسؤولين الاقتصاديين والماليين في قمّة ألاسكا؟ علينا أن ندرك أن المساومات بين واشنطن وموسكو قد تؤدي إلى إنتاج مصالح مشتركة تقدر بمليارات الدولارات.
وفي القوقاز وآسيا الوسطى، بل وحتى في الشرق الأوسط (خصوصًا في إيران وسوريا)، قد نشهد بفضل دور روسيا “المساهم” ظهور ممر استراتيجي ضخم يشبه ما يمكن وصفه بـ “أثر كيسنجر” كهدف نهائي، وهو ما كان حاضرًا في تصورات ترامب خلال ولايته الأولى.
ومن هنا، يصبح لزامًا علينا أن نفكر الآن في نواة التحالف الممتدة من ألاسكا إلى الصين، بعيدًا عن النمطية الذهنية السائدة، وذلك لأننا نقع تماماً في قلب هذا المشهد.