اخبار تركيا
في مقال بصحيفة يني شفق، تناول السياسي والبرلماني التركي السابق ياسين أقطي، ملامح “الترامبية الجديدة” كما ظهرت في مشهدَي الكنيست الإسرائيلي وقمة شرم الشيخ، مسلّطًا الضوء على الأسلوب السياسي والنفسي الذي اعتمده دونالد ترامب في التعامل مع الصراع في غزة.
يبيّن الكاتب كيف استخدم ترامب خطاب المديح المفرط والإطراء النرجسي لتبرير الإبادة وتحويل الهزيمة الإسرائيلية إلى “نصر رمزي”، في محاولة لإعادة إنتاج صورة أمريكا كـ”صانعة للسلام” رغم تورطها في دعم العدوان.
كما يبرز الموقف التركي بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان بوصفه الاستثناء الوحيد الذي قاوم هذا الأسلوب الترامبي القائم على التلاعب بالرموز والسيطرة عبر الإطراء. وفيما يلي نص المقال:
أدى عرض دونالد ترامب الفردي الذي قدّمه أولاً في الكنيست الإسرائيلي الصهيوني مرتكب الإبادة، ثم في شرم الشيخ بمصر، إلى بلورة ملامح الترامبية الجديدة وجعلها أكثر وضوحًا.
الترامبية
كان القضية الرئيسية بالطبع هي وقف الإبادة الجماعية المستمرة في غزة منذ عامين، ومن هذا المنطلق، يجب أن نقول إن العرض الذي قدمه ترامب لعب دوراً بالغ الأهمية في تحقيق هذه النتيجة. ولكن بما أننا نعلم أن العدوان الإسرائيلي يستمد كل قوته ودعمه من الولايات المتحدة، فإن أي رئيس أمريكي راغب بذلك يمكنه أن يفعل الشيء ذاته. ولكن يجب أن نُقر بأن بايدن لم تكن لديه النية لذلك من قبل. ومن الطبيعي في السياسة الأمريكية أن يفضل أي رئيس آخر اتباع الإرادة الإسرائيلية، لأنه لا يجرؤ على مواجهة اللوبي اليهودي القوي جداً في الولايات المتحدة. وهذا يُحسب بالتأكيد نقطة إيجابية لصالح ترامب.
وكان جزء من الاستعراض الذي قدمه ترامب في سعيه لتحقيق السلام وإنهاء الحرب يهدف إلى إرضاء اللوبي اليهودي الذي لا يزال قويا جداً في الولايات المتحدة رغم كل شيء، وربما كان يهدف إلى احتوائه والتوصل إلى حل دون مواجهته بشكل مباشر. وفي هذا الصدد فإن ذهاب ترامب إلى إسرائيل قبل مشاركته في قمة شرم الشيخ التي جمعت القادة المعارضين لإسرائيل، يمثل أسلوباً مثيراً للاهتمام في الإدارة.
وفي خطابه أمام الكنيست، أثنى ترامب على نتنياهو وفريقه الذين صدرت بحقهم أوامر اعتقال في العديد من الدول بتهمة ارتكاب إبادة جماعية، وجعل الحضور يصفقون لهم طويلاً؛ إن هذا يستدعي بلا شك تفسيرًا في الاجتماع الذي سيحضره بعد ساعات. لكن ترامب لم يشعر بضرورة تقديم أي تفسير لهذه المواقف ولم يفكر في ذلك أصلا، و لم يسأله أحد لاحقًا. والأسوأ من ذلك، أنه تباهى أمام نتنياهو، الذي ارتكب جريمة الإبادة الجماعية في غزة، قائلاً وكأنه فعل أمرا حسناً: “نحن ننتج أفضل الأسلحة في العالم، وقد قدمنا لإسرائيل الكثير، وأنتم أحسنتم استخدامها”.
ثم حظي بتصفيق حار في الكنيست وهو يسرد المساهمات الكبيرة التي قدمها لإسرائيل بنقل سفارتها إلى القدس والسماح لها باحتلال الجولان. غير أن هذه التصريحات تحديدًا كانت تستوجب مساءلةً حقيقية في الاجتماع الذي تلاه لاحقًا، لا سيما حين زعم أنه يسعى إلى “السلام”. صحيح أنك تعمل من أجل السلام، ولكن كيف تخطط لتحقيقه أو توسيع”اتفاقيات إبراهام” التي تتوق إليها بشدة في ظل هذا الموقف؟ وأي دولة إسلامية يمكن أن تمضي في اتفاقٍ مع إسرائيل، وقد جعل ترامب من القدس عاصمةً حصريةً لها وأقصى عنها الفلسطينيين أصحاب الأرض الشرعيين؟ كيف يمكنك أن تحلم بـ “اتفاقية إبراهيم” بينما تقدم هذا الدعم الواسع للاحتلال؟ كان يجب أن يكون هناك من يسأل هذه الأسئلة في شرم الشيخ، فقد كانت الفرصة سانحة، والجمع غفير.
لقد قدم ترامب أكبر دعم ممكن لنتنياهو، الذي كان يتعرض لضغوط هائلة في الكنيست بسبب الاتفاق مع حماس.
لكنّ ما فعله ترامب لم يكن مجرّد دعمٍ سياسي، بل محاولةٌ لإقناع نتنياهو بفكرة “السلام”، أو على الأقل تهيئته لتقبّلها. وقد اعتمد ترامب في ذلك على أسلوبه الترامبي الخاص، حيث عمد إلى تحويل الهزيمة إلى “نصرٍ نفسي”، عبر خطاب يقوم على التلاعب بالرموز والمعاني. فقد سعى إلى إقناع الإسرائيليين ــ الذين رأوا في الاتفاق مع حماس واستعادة الأسرى هزيمةً وإذلالًا لهم ــ بأن ما حدث إنما هو “نصرٌ مشرّف” وليس هزيمةً. كان يردد على مسامعهم قائلا: “الرهائن يعودون، هل تتخيلون؟ ألا تدركون كم يبدو هذا جميلاً؟ إنه نصرٌ حقيقيّ.” لقد كان المشهد أشبه بجلسة علاجٍ نفسيٍّ جماعي، والنتيجة أنّ كثيرين اقتنعوا بهذه “الرواية الجديدة”. بل إن بعض المعلّقين في وسائل الإعلام لدينا تبنّوا هذا الطرح، معتبرين أنّ إسرائيل “انتصرت وحققت ما أرادت”. ولكن ما تم إدراكه من المشهد لم يكن سوى هذا الجانب العلاجي، وإلا فالجميع يعلم، بمن فيهم نتنياهو وجميع الصهاينة المتعطشين للدماء، أنهم لم يحققوا أيا من أهدافهم منذ بداية الحرب. لقد ارتكبوا مجازر رهيبة، لكن أعداد القتلى لم تُكتب في خانة انتصاراتهم، بل في خانة عجزهم ومذلتهم. فلا يمكن أن تُكتب ملحمة نصر بزيادة خسائر الطرف الآخر عبر قتل الأطفال. لقد أقسم أبو عبيدة قائلاً: “والله والله لن تحصلوا على أي رهينة إلا بقرار وإرادة كتائب القسام”، وقد تحقق ما قاله. فمن هو المنتصر؟
لكن إسرائيل كانت بحاجة إلى عزاء، إلى سردية لإيقافها. وقد منحهم ترامب هذه السردية بأسلوب سياسته الترامبية.
لقد فعل ذلك من خلال التربيت على أكتافهم، وإخبارهم بأنهم انتصروا، وإغداق الثناء عليهم، وإعلانهم أبطالًا. وفي هذا الصدد، وخلافًا لما قد يعتقده البعض، أرى أن العرض الذي قدمه في الكنيست قمة الأسلوب السياسي الترامبي.
وكذلك في شرم الشيخ استمر الأسلوب السياسي ذاته. حيث لفتت خطاباته “الترامبية” المليئة بالإطراءات المبالغ فيها الانتباه. ففي تل أبيب وهنا، يثني ترامب على كل من يذكر اسمه بشكل مفرط، ويجعل الناس يصفقون لهم. وبما أن الجميع يعلم أن السمة الأبرز لترامب هي غروره النرجسي، فمن الطبيعي التساؤل عن سبب تعامله مع الآخرين بمثل هذا الإطراء المفرط؟ هذا موضوع يحتاج حقاً إلى تفسير، وبما أنّه بالسمات الشخصية، فإن تفسيره يكون متعلقاً بعلم النفس.
هل يُعتبر مدح ترامب أمرا إيجابيًا أم لا؟
في الواقع، عند الرجوع إلى علم النفس، يتضح على الفور أنّه لا ينبغي إعطاء قيمة كبيرة لمدح ترامب. بل قد يكون من المناسب أحيانًا الاكتفاء برد فعل خفيف تجاه هذا المدح، إذ أن هذه الإطراءات تتحوّل في مرحلة ما إلى وسيلة للتحكم بالآخرين.
فأولاً وقبل كل شيء، عندما يمدح الشخص النرجسي الآخرين، فهو يمدح في الواقع نفسه. إذ يرى الشخص الذي يمدحه امتداداً لـ ذاته المثالية، وكأنه يقول: “أنت رائع، لأنني أتواصل معك”. وهذا بدوره يعني: “إذا كنت أنت مثالياً، فأنا كذلك”. وبالتالي مدحه ليس تقديراً حقيقياً للطرف الآخر، بل هو انعكاس لذاته المثالية.
وثمة دورة شائعة في العلاقات النرجسية؛ أولًا: مرحلة المثالية، حيث يُمدح الطرف الآخر بشكل مفرط ويُعتبر “فريدًا من نوعه”. ثانياً: مرحلة التقليل من القيمة، حيث يُسحق الشخص لأدنى خيبة أمل. ومن ثَّم، فإن المدح ليس مؤشرًا على علاقة متينة، بل أداة مؤقتة للتحكم والتلاعب. ولهذا، غالبًا ما تكون مدائح النرجسيين مبالغًا فيها، ومفاجئة، وخارجة عن سياقها.
ويستخدم بعض النرجسيين الثناء لجعل الطرف الآخر تابعًا لهم (عبر خلق شعور بالدين العاطفي)، والاحتفاظ بـ سلطة الموافقة في يدهم، ولتبرير انتقاداتهم المستقبلية. فيقول مثلا: “أنا أقدرك حقاً، لكنك لم تعد كما كنت مؤخراً…”. هذه الجمل هي أمثلة نموذجية لآلية التمجيد ثم التحكم.
“وان مينت” لنتنياهو وترامب
من المثير للاهتمام في هذا السياق اعتقاد ترامب أن بإمكانه أن يأخذ نتنياهو على متن طائرته إلى شرم الشيخ بعد كل سياسة المديح التي مارسها في تل أبيب، ويتجاهل كل الحقائق الدبلوماسية والإنسانية، أو يتغاضى عنها. لو لم يكن هناك رفض لأسلوب الرئيس أردوغان (وان مينت)، فهل كان العديد من القادة هناك ليتقبلوا هذا الوضع رغبةً في الحصول على مديح من ترامب؟
يبدو أنّ المضيف بادر بالفعل وقدّم الدعوة فورًا. ولكن عندما قاد أردوغان الموقف، استجاب الآخرون على الفور وأظهروا الرد المناسب. ومع ذلك، لاحظنا في شرم الشيخ أن عددًا قليلًا فقط لم يخضع لأسلوب المدح والسيطرة الذي مارسه ترامب. إن موقف أردوغان، سواء تجاه نتنياهو أو أثناء حديث ترامب، حين فضل الجلوس والاستماع بدل الوقوف خلفه، يعكس هيبة ووقارًا يبعث على فخرنا كشعب.
وبطبيعة الحال، لم يسلم أردوغان حتى بموقفه هذا من مديح ترامب. ولكن الحمد لله، أردوغان ليس من الذين يقعون في فخ هذا المديح.