اخبار تركيا
تناول مقال للكاتب والسياسي التركي ياسين أقطاي، الاجتماع الذي نظمته الجماعة الإسلامية في باكستان بعنوان “السعي لإقامة نظام عالمي عادل”، بوصفه محاولة لبلورة رؤية إسلامية مشتركة في عالم يشهد انهيارًا واضحًا في منظومة القيم والمؤسسات الدولية.
يناقش الكاتب في مقاله بصحيفة يني شفق أبعاد التحرك الباكستاني كدولة تأسست على أساس إسلامي، ويربطه بالتحولات العميقة التي فجّرها “طوفان الأقصى”، والذي كشف هشاشة النظام العالمي وهيمنة القوة وانعدام العدالة.
ويظهر كيف تسعى القوى الإسلامية—من باكستان إلى تركيا—للتفكير بشكل منهجي في صياغة بدائل حقيقية، بينما يضرب مثال غزة التي لم تنتظر النظام الدولي ولا مؤتمراته، بل غيّرت قواعد اللعبة بإرادتها.
وفيما يلي نص المقال:
نظمت قيادة الجماعة الإسلامية في باكستان مع عدد من المشاركين الدوليين الذين بلغ عددهم المئات، والذين حضروا مؤتمر الجماعة الإسلامية بدعوة، اجتماع طاولة مستديرة استمر يوماً كاملاً تحت عنوان: “السعي لإقامة نظام عالمي عادل”.
ولا شك أنّ مسعى الجماعة الإسلامية لإقامة “نظام عادل”داخل باكستان يعد قضية داخلية ينبغي عليها معالجتها. وهناك مؤشرات قوية على أن الإدارة الجديدة للجماعة ستخوض بنشاط أكبر نضالها من أجل نظام أكثر ديمقراطية وعدلاً في البلاد. ويمكن ملاحظة هذه المؤشرات من خلال شخصية القائد الجديد، وخطابه، والتحليل الذي أجريناه للقاعدة الاجتماعية للجماعة. ويمكننا أن نلمس هذه المؤشرات في ضوء تحليلاتنا لشخصية القائد الجديد، وخطابه، وقاعدته الاجتماعية. ولكن يبدو جليا أن الجماعة الإسلامية تسعى إلى تبادل الخبرات واستكشاف آفاق مشتركة مع الأطراف الفاعلة الدولية، خاصة مع الساسة والمثقفين من العالم الإسلامي الذين رأوا الإسلام وأقروا به وقبلوه كقضيتهم الأولى. ولا يمكن أن يكون هناك عمل أكثر طبيعية لجماعة إسلامية من هذا. فالإسلاموية تعني، قبل كل شيء، القدرة على التفكير مع جميع مسلمي العالم، واقتسام الهموم والأهداف المشتركة. لكن هذا يتطلب أيضاً عملياً مشاركة أفق سياسي مشترك مع مسلمي العالم، وتوسيع مجال رؤية هذا الأفق إلى أقصى حد ممكن.
وفي اجتماع الطاولة المستديرة بعنوان “السعي لإقامة نظام عالمي عادل”، الذي أداره مدير العلاقات الخارجية للجماعة، عاصم لقمان قاضي، كانت هناك ثلاثة محاور رئيسية: وكان المحور الأول بعنوان: “إعادة هيكلة الحكم العالمي نحو نظام دولي ديمقراطي”، وقد طُرحت فيه أهم الأسئلة الجوهرية: هل يجب على الدول النامية تشكيل تحالفات إقليمية أقوى لتعزيز قدرتها التفاوضية الجماعية؟ زما هي الإيجابيات والسلبيات المحتملة لذلك؟ وما هي الحوافز الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية التي يمكن أن تدفع الدول القوية إلى قبول نظام حكم عالمي أكثر عدلاً؟
أما عن العنوانين الرئيسيين للجلسات الأخرى، فهما: “الأسس الأخلاقية والروحية لنظام عالمي عادل” و”عقد جديد للإنسانية”.
وإلى جانب رئيس حزب الرفاه من جديد، فاتح أربكان، ورئيس حزب السعادة، محمود أريكان، اللذين سبق لهما التحدث في اجتماعات سابقة، شارك أيضًا عضو حزب العدالة والتنمية، بورهان كاياتورك، حيث تحدث عن أهمية إجراء هذه النقاشات على هذا المستوى في الوقت الراهن، ستشهداً بجهود تركيا وحرصها، بقيادة الرئيس أردوغان على بناء عالم أكثر عدلاً.
كما ألقى همام سعيد، الرئيس السابق لحزب جبهة العمل الأردنية، كلمة في الاجتماع، وقد ركّز على نقطتين مهمتين: الدولة والمكان الذي عُقد فيه هذا الاجتماع، وتوقيت الاجتماع. أعتقد أن هاتين النقطتين أطرّتا معاني الاجتماع بشكل جيد جدًا.
فانعقاد الاجتماع في باكستان كان أمراً مهماً للغاية بالنسبة لسعيد، لكونها الدولة الوحيدة بين دول العالم التي تأسست على أساس الإسلام. وكان هذا أيضاً إشارة مؤسفة إلى عدم وجود أي دولة في العالم الإسلامي، بما في ذلك جميع الدول الإسلامية حالياً، كان الهدف التأسيسي الأساسي لها هو الإسلام. وقد أشرنا سابقاً إلى أن جميع الدول التي تأسست على الأراضي العثمانية بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب عام 1918 لم يكن سبب تأسيس أي منها هو الإسلام. واليوم، لا يشكل الإسلام سبب وجود أو هدفاً لأي منها. وبعد إلغاء الخلافة، لم تبقَ أي دولة في العالم الإسلامي كان سبب وجودها هو الإسلام. غير أن باكستان تمثل استثناءً في هذا التاريخ. فقد أُنشئت باكستان كدولة إسلامية لتكون وطناً للمسلمين. وبالتالي، تعتبر باكستان مصدر عزاء رسمي لجميع المسلمين باعتبارها دولة أنشئت رسميًا على أساس، وفي الوقت نفسه، تُلقي على عاتقها مسؤولية أكبر بكثير.
النقطة الثانية التي ركّز عليها سعيد هي توقيت الاجتماع. فقد عقد هذا الاجتماع بعد طوفان الأقصى. وبالطبع، هذا ليس أول اجتماع يُعقد تحت هذا العنوان بعد طوفان الأقصى.
لقد أحدث طوفان الأقصى، إلى جانب نتائجه العديدة، تأثيرًا هائلًا وأجبر العالم برمته إلى إعادة النظر في توازنه، وأرغم القوى الدولية على التكيف مع واقع جديد. وفي مواجهة هذه التوازنات المتغيرة والمضطربة، انطلقت محاولات جديدة للبحث عن توازنات على المستويين الدولي والمجتمعي. الجميع يسعى بطريقة لإيجاد تحالفات آمنة وخطوات عملية أمام نظام عالمي قائم لا ينتج سوى الإبادة الجماعية، وانعدام الاستقرار، وانعدام الأمان، والظلم.
شاركت شخصيًا في العديد من الاجتماعات تحت هذا العنوان مؤخرًا. وقبل شهر تقريبًا في غازي عنتاب، عُقدت ندوةٌ تحمل العنوان نفسه تقريبًا في جامعة العلوم والتكنولوجيا الإسلامية في غازي عنتاب. وشارك فيها عدد كبير من المفكرين والفاعلين المسلمين من العديد من الدول، بحثوا عن صيغ عالمية أكثر عدلاً وسعوا لإيجاد حلول ممكنة.
وهنا يجدر التوقف عند نقطة مهمة:
لم يقف شعب غزة متفرجًا على تحولات التوازنات العالمية لصالحه، ولم يكتفِ بعقد المؤتمرات أو اقتراح بدائل للنظام العالمي القائم، إذ كانوا يعلمون تمامًا أن مثل هذه الأنشطة لم تحقق أي فائدة حقيقية حتى الآن. فالنظام العالمي اليوم قائم على القوة فقط، لا يعرف الرحمة، ولا يحمي الضعفاء، ولا يُراعي المظلومين. ولا يقدم حلاً للمظالم والاضطهاد وانتهاكات حقوق الإنسان والإبادات الجماعية والمجازر حالات والفقر التي لا تعد ولا تحصى والتي تحدث في جميع أنحاء العالم. فطريقة بناء نظام الأمم المتحدة لا تتيح أساساً أي إمكانية لمثل هذه التدخلات، كما أن حق الفيتو المخوّل لخمس دول قوية لا يجعل العدالة مستحيلة داخل النظام فحسب، بل يحول أيضاً دون وقف المجازر والظلم. وقد رأينا ذلك جلياً في سوريا، ونراه اليوم في ميانمار، وفي سياسات الفصل العنصري التي يتعرّض لها مسلمو الهند، وفي احتلال مرتفعات قره باغ لأعوام، وفي ليبيا.
في مواجهة كل هذه الأزمات، ظل الرئيس أردوغان لسنوات يؤكد على ضرورة تغيير نظام الأمم المتحدة القائم. ومن خلال شعاره الشهير “العالم أكبر من الخمسة”، سلط الضوء على الطبيعة العاجزة والفاشلة لهذا النظامالذي لم يعد قادرًا على إنتاج حلول. فهل علينا انتظار أن يتغير هذا النظام من تلقاء نفسه؟ بالطبع لا. لقد أظهر أردوغان عمليًا وبوضوح، من خلال ممارساته، ما ينبغي فعله في مواجهة هذا النظام: ففي ليبيا والصومال، وآخرها في أذربيجان، بادرت تركيا بنفسها لتصحيح الأوضاع المشوهة هناك، وتحركت، فغيّرت الواقع لصالح شعوب تلك المناطق.
وقد فعل السوريون الشيء نفسه في سوريا. فقد انتظروا المساعدة والدعم من المجتمع الدولي طيلة 14 عاماً، ولكن هذا الدعم لم يأتِ. فبادروا بالتحرك بأنفسهم وغيّروا الوضع. كما وقف الشعب الأفغاني بصبر وعزيمة في وجه الاحتلال وغيّر الوضع لصالحه. إنهم لم ينتظروا العدالة من النظام العالمي. وكذلك إخواننا في غزة، لم ينتظروا شيئاً لا من النظام العالمي العام ولا من العالم الإسلامي للأسف. أو بالأحرى، انتظروا، ولكن عندما لم يأتِ ما توقعوه، سعوا لتقرير مصيرهم بأنفسهم. لقد أثبتوا حريتهم، وهم اليوم، كما يشهد الجميع، أكثر شعوب العالم حرية. وفي الواقع، ما يجب أن نعرفه في مواجهة النظام العالمي الحالي هو أن علينا أن نعدّ ما استطعنا من قوة لمواجهة الأعداء: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}
لقد غيّر شعب غزة بهذه الانتفاضة، وبهذه الإرادة والمبادرة التي أظهرها، كل النماذج المتعلقة بالعلاقات الدولية في العالم. لقد حطموا النموذج القائم، وكشفوا عن العناصر العنصرية والفصلية الكامنة تحت جميع ادعاءات الحداثة المتعلقة بحقوق الإنسان، والديمقراطية، والتقدم، والعقل، والعلم.
والآن في ظل هذا الأفق الذي فتحته غزة، تتجه هذه المساعي في باكستان وتركيا وفي العديد من بقاع العالم نحو سعي أكثر منهجية، لتجسيد ما يمكن تسميته “روح العصر”.
