غزوان مصري خاص اخبار تركيا
تشهد المنطقة اليوم مرحلة مفصلية تعيد رسم الخرائط الاقتصادية والجيوسياسية، وفي قلب هذه التحولات تبرز مدينة حلب بوصفها مركزاً طبيعياً لأي تكامل اقتصادي بين تركيا وسوريا. فحلب ليست مجرد مدينة سورية كبرى، بل عقدة تاريخية على طريق الحرير، وعمق اجتماعي واقتصادي لمدن الجنوب التركي، خاصة غازي عنتاب وكلّس، اللتين ترتبطان تاريخياً مع حلب بعلاقات تجارية وثقافية واقتصادية متجذّرة. واليوم، بينما تعمل تركيا على فتح ممرات جديدة للتجارة والطاقة نحو الشرق الأوسط والخليج، يبرز محور حلبتركيا بوصفه إحدى أهم الفرص الاستراتيجية التي يمكن أن تعيد تشكيل مستقبل المنطقة بأكملها.
قبل الحرب، كانت حلب أكبر مركز صناعي وتجاري في سوريا، وكانت تضم أكثر من ثمانية آلاف منشأة صناعية في قطاعات النسيج، والصناعات الغذائية، والجلود، والكيماويات، ومواد البناء. هذه القوة الصناعية كانت تشكل أكثر من 35% من الاقتصاد السوري. وعلى الجانب الآخر من الحدود، صعدت غازي عنتاب لتصبح واحدة من أكبر المدن الصناعية في تركيا، بصادرات تجاوزت 12 مليار دولار، وبنية تحتية قوية تشمل المناطق الصناعية المنظمة، والموانئ الجافة، وخطوط ربط لوجستية فعّالة مع ميناء مرسين وإسكندرون.
هذا التوازي بين المدينتين خلق عبر عقود طويلة شبكة تكامل طبيعية: حلب كانت السوق والعمالة والتاريخ الصناعي، وتركيا كانت التكنولوجيا الحديثة والتمويل وممرات التصدير العالمية. واليوم، بعد سنوات من النزاع، تعود هذه الشبكة للظهور مجدداً، ولكن بشروط جديدة تفرضها الحاجة إلى إعادة الإعمار، والدور التركي الصاعد كمركز إقليمي للتجارة والطاقة، ومشروع الربط الغازي عبر ممر كلّسحلب الذي بدأ في 2025.
يُنظر إلى هذا المشروع بوصفه خطوة استراتيجية من شأنها تزويد حلب بالغاز والكهرباء، وربطها بشبكة الطاقة التركية، ما يسمح بإعادة تشغيل المصانع وتطوير مناطق صناعية جديدة تعتمد على طاقة مستقرة ورخيصة. هذا الربط ليس مجرد «خط طاقة»، بل هو تأسيس لبنية اقتصادية مشتركة تجعل المصالح بين البلدين أكثر ترابطاً وأقل قابلية للانفصال.
يمكن لحلب أن تتحول إلى مركز لوجستي وتجاري إقليمي، مستفيدة من إعادة فتح ممر الترانزيت بين تركيا وسوريا، والذي سيتيح مرور الشاحنات التركية إلى الأردن والخليج عبر حلب. هذا الممر، عند اكتماله، سيشكل أقصر وأرخص طريق لتجارة تركيا مع العالم العربي، وسيعطي لحلب مكانة مشابهة لدور غازي عنتاب في سلاسل التوريد التركية.
كما أن إعادة تأهيل الطرق الدولية M4 وM5، وربط حلب بباب الهوى وباب السلامة والراعي والباب، يمكن أن يحوّل المدينة إلى نقطة تجميع وتوزيع للبضائع القادمة من تركيا والمتجهة نحو الداخل السوري والعراقي والأردني. ويمكن لرجال الأعمال من البلدين تأسيس مستودعات ومراكز لوجستية ومناطق حرة مشتركة داخل حلب أو على الحدود، ما يجعل التجارة أكثر سرعة وكفاءة وأماناً.
من الناحية الصناعية، يمكن لتركيا وحلب إطلاق نموذج شبيه بـ«المناطق الصناعية المشتركة»، بحيث تتوزع سلاسل الإنتاج بين الجانبين: التصميم والتقنيات والتصدير عبر تركيا، والإنتاج والتجميع عبر حلب. هذا النموذج نجح في دول كثيرة، ويمكن تطبيقه بنجاح في قطاعات النسيج والملابس الجاهزة والصناعات البلاستيكية والغذائية ومواد البناء. كما يمكن توظيف العمالة السورية المدربة في هذه الصناعات، مما يساعد على خفض التكاليف ورفع القدرة التنافسية للمنتجات.
ولرجال الأعمال دور محوري في قيادة هذا التكامل. فبينما تضع الحكومات الإطار السياسي والقانوني، يستطيع القطاع الخاص خلق المصالح المشتركة التي تُثبت الاستقرار وتدفع بالسياسة إلى مسار واقعي. ومن أبرز الخطوات العملية التي يمكن لرجال الأعمال القيام بها: إنشاء مجلس أعمال تركيسوريعربي يستثمر الروابط التجارية، تأسيس مناطق صناعية مشتركة، تطوير مشاريع للطاقة تعتمد على الغاز التركي، إنشاء صناديق استثمار وتمويل تستهدف إعادة إعمار المصانع في حلب، وتطوير برامج تدريب مشتركة لإعداد اليد العاملة وفق احتياجات الصناعة الحديثة.
هذه الشراكة ليست خدمة لمدينة واحدة أو لقطاع واحد، بل هي مشروع إقليمي يمكن أن يعيد تنشيط التجارة بين تركيا والعالم العربي. إن تفعيل خط الترانزيت نحو الأردن والخليج، وربطه بالطرق السورية، يعزز موقع تركيا كممر تجاري عالمي، ويفتح الباب أمام استثمارات عربية ترى في تركيا وحلب معاً منصة إنتاج وتصدير إلى دول المنطقة.
إن حلب اليوم ليست مجرد مدينة متعافية من حرب، بل فرصة اقتصادية استراتيجية لتركيا وسوريا والعالم العربي. فالتكامل بين حلب والمدن التركية الحدودية يتيح إمكانات هائلة لإطلاق اقتصاد جديد قائم على الإنتاج المشترك والطاقة المستقرة والشراكات العابرة للحدود. ومن خلال رؤية واضحة وشراكات فعالة، يمكن أن تبدأ من حلب قصة نهضة اقتصادية جديدة، تضع المنطقة على طريق الاستقرار والنمو، وتفتح الباب أمام جيل جديد من الفرص التجارية والاستثمارية.
