اخبار تركيا

وجّه الكاتب والإعلامي التركي البارز توران قشلاقجي، دعوة إلى محاكمة “الصهيونية السياسية” بوصفها أيديولوجيا استعمارية وعنصرية قامت لخدمة مصالح الغرب، واستُخدم فيها اليهود كأداة لتحقيق أهداف إمبريالية.

يربط قشلاقجي في مقاله بصحيفة القدس العربي بين الصهيونية والأنظمة الفاشية التي أدانها التاريخ، مؤكداً أنها ارتكبت جرائم إبادة وتطهير عرقي بحق الشعب الفلسطيني منذ أكثر من قرن. كما يستعرض مواقف عدد من المفكرين والكتّاب اليهود الذين انتقدوا الصهيونية واعتبروها انحرافاً عن القيم الإنسانية واليهودية الحقيقية، مثل نعومي كلاين وإدغار موران وإيلان بابي.

ويذكّر الكاتب بقرار الأمم المتحدة عام 1975 الذي ساوى الصهيونية بالعنصرية قبل أن يُلغى بضغط أمريكي، ليؤكد في الختام أن محاكمة الصهيونية اليوم ليست مسألة سياسية فحسب، بل واجب أخلاقي وإنساني لإنصاف الضحايا واستعادة ضمير العالم. وفيما يلي نص المقال:

آن الأوان، بل تأخّر كثيرا، لمحاكمة “الصهيونية السياسية”، التي بُنيت لخدمة مصالح الغرب، واستُخدِم اليهود فيها كجنودٍ مرتزقة رخيصو الثمن. فهذه الأيديولوجيا يجب أن تُدان كما أُدينت من قبل نازية هتلر وفاشية موسوليني، ويجب أن تُلقى في مزبلة التاريخ، باعتبار ذلك مسؤوليةً إنسانيةً لا تحتمل التأجيل. واليوم، بعد أن استيقظت شعوب العالم، بات من الملحّ محاسبة هذا النظام الفاشي العنصري، على ارتكابه المجازر والإبادات والتطهير العرقيّ في هذه المنطقة منذ أكثر من قرن.

إن الدعوة إلى محاكمة الصهيونية لا تأتي من غير اليهود فحسب، بل يطالب بها كثير من المفكرين والكتّاب والناشطين اليهود أنفسهم. فقد قالت الكاتبة والصحافية اليهودية الكندية الشهيرة نعومي كلاين في مقالٍ نُشر عام 2024 في صحيفة The Guardian تحت عنوان “نحن بحاجة إلى خروج من الصهيونية”: “لسنا بحاجة إلى الصهيونية، ولا نريد مثل هذا الإيمان. نريد أن نتخلّص من هذا المشروع الذي يرتكب إبادةً جماعية باسمنا”. كلاين تصف الصهيونية بأنها “صنم زائف”، وتضيف: “هذا الصنم يُساوي بين حرية اليهود وقنابل عنقودية تقتل أطفال فلسطين. هذا الصنم الزائف ليس نتنياهو وحده، بل العالم الذي صنعه وتغذّى عليه، إنّه الصهيونية نفسها”.

ويرتفع صوت ضمير حي مشابه من الفيلسوف والمفكر الفرنسي اليهودي إدغار موران، البالغ من العمر 104 أعوام، الذي قال عبارته الخالدة: “إن كان الظلم منّا، فأنا لستُ منّا”، مجسّدا صدى الضمير الإنسانيّ. وتحدّث موران عن غزّة بهذه الكلمات التي تلخّص قرناً من التجربة والمعاناة: “إنّ أحفاد شعبٍ تعرّض عبر القرون للاضطهاد الدينيّ والعرقيّ، يرتكبون اليوم مجزرة جماعية ضدّ سكان غزّة. وصمت الولايات المتحدة والعالم العربيّ وأوروبا يمثل مأساة كبرى للإنسانية. وإن لم نستطع المقاومة، فلنشهد؛ لنقاوم في عقولنا، لئلّا ننخدع، ولئلّا ننسى”.

وكذلك شدّد كثير من المفكرين اليهود مثل إيلان بابي وآفي شلايم ونعوم تشومسكي ونورمان فينكلشتاين، مرارا على أنّ “الصهيونية السياسية” ألحقت الضرر لا بالشعوب الأخرى فحسب، بل باليهود أنفسهم. وقد كتب ج. نويبرغر، الرئيس السابق لمنظمة أجوداث إسرائيل العالمية للشباب، في مقالٍ بعنوان “التمييز بين اليهودية والصهيونية” ما يلي: “في الولايات المتحدة اليوم، معارضة الصهيونية تحتاج إلى شجاعة كبيرة، تماما كما كانت معارضة الفاشية في إيطاليا أو النازية في ألمانيا، خلال الحرب العالمية الثانية عملاً بطوليّاً. الصهيونية انحرافٌ مؤقّت في التاريخ الطويل للشعب اليهودي”.

كانت الأمم المتحدة قد وصفت الصهيونية في القرن العشرين بأنها “شكل من أشكال العنصرية”. ففي 10 نوفمبر/تشرين الثاني 1975، أقرّت الجمعية العامة القرار رقم 3379 الذي نصّ صراحة على أنّ الصهيونية شكلٌ من أشكال التمييز العنصري. غير أنّ هذا القرار أُلغي في 16 ديسمبر/كانون الأول 1991 بضغطٍ شديد من إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، عبر القرار رقم 4686.

لكن هذا الإلغاء لم يُلغِ الطابع العنصريّ للصهيونية، بل كشف فقط أنّ الأمم المتحدة خضعت للابتزاز السياسي وتستّرت على الحقيقة. لقد سعت إدارة بوش لإلغاء القرار الذي ساوى الصهيونية بالنازية والفاشية أكثر من سعي اللوبيات الصهيونية نفسها، في مشهدٍ يُظهِر كيف احتضنَت الإمبرياليةُ ابنَها غير الشرعيّ. إنّ انزعاج الولايات المتحدة من ذلك القرار كشف أنها لم تحمِ الكيان الصهيونيّ وحده، بل حَمَتْ أيضا أيديولوجيّته الرسمية، الصهيونية ذاتها.

خلاصة القول؛ يقف التاريخ اليوم عند مفترق طريق، فقد حوكِمَت النازية والفاشية ونظام الفصل العنصري، وحان الوقت لمحاكمة الصهيونية على المنبر نفسه. فالصهيونية لم تحتلّ فلسطين وحدها، بل احتلّت ضمير الإنسانية جمعاء. الأطفال الذين يرقدون تحت أنقاض غزّة لا يستدعون صمت العالم، بل يستدعون عدالة المستقبل. وعندما يحين ذلك اليوم، سيتردّد في قاعة التاريخ، كما في نورمبرغ، هذا الإعلان الجليل: “إنّ اسم الجرائم ضدّ الإنسانية والإبادة الجماعية هو الصهيونية”.

شاركها.