د. علي محمد الصلابي خاص اخبار تركيا

اختلفت الجاهليات طرائق قدداً في حياتهم العملية، كما اختلفت في عقائدها، فجاءت قيمها وأخلاقها العملية وشرائعها، وعاداتها صوراً منكرة ناكبة عن الحق، تسحق الإنسان وتشقيه، ومن أبرز وجوه وأشكال هذه الجاهلية الرهبانية السلبية التي لم يفرضها الله تعالى على عباده، والتي نتجت عن الغلو الغير مطلوب ولا الضروري لحياة الإنسان أو تدينه أو أخلاقه.

والرهبانية السلبية هي الوجه الآخر المضاد للشهوانية المادية، قادت الجاهليات فيه أفواجاً من البشر إلى العدم والسلبية، وصادمت الفطرة السليمة التي وقعت دائماً بين امتداد فاحش مدمٍّرٍ، أو تقلُّصٍ متلفٍ مهلك.

والرهبانية جاءت نتيجة فهم قاصر للكيان الإنساني، ولطريقة التعامل معه، ومن أسباب نشأتها: أن فريقاً من البشر نظروا إلى الحياة، فوجدوها مليئة بالآلام والمتاعب، فأرجعوا ذلك إلى كثرة الانهماك في الملذات والشهوات، ورأوا: أن خير وسيلة تستطيع الروح أن تنجو بها هي التخلص من مطالب الجسد المادية، وتخفيف ذلك، والتخلص من الرغبات، والمنع بالمجاهدات العنيفة، والفرار من الحياة إلى الكهوف، والمغارات والمفارز، واعتزال الناس قدر المستطاع، وإتعاب الجسد، وإحكام الطوق حول النفس؛ حتى لا تنال شهوة أو متعة تطيل شقاءها في هذه الأرض، وبذلك نشأت هذه الرهبانية المذلة المهلكة كرد فعل للشهوانية المتهالكة، وذلك على عكس التعفف المعتدل والزهد الإيماني، والمجاهدة التي تقوم على بناء محكم لتصمد في وجه المغريات، وهي تشق طريقها في الحياة، كما هو الحال في المنهاج الإلهي الحكيم في كل عصر، وإنما هي فلسفة حياة تقوم على الهرب من الحياة، والتهرب من تكاليفها، مما كان له أفدح الأضرار على الأمم والأجيال، ولا يزال، وأنكد الرهبانيات جميعاً ما اتخذ سمة العقائد والأديان، فاستحدثت سلوكاً وعادات وتصرفات ما أنزل الله بها من سلطان. وإذا أراد الإنسان الاستزادة وفهم المقصد؛ فلينظر عقيدة الهندوس التي انبثقت منها الرهبانية الهندية التي تبني دستورها على عقائد شركية وعبادة منحرفة، وأخلاق بعيدة عن الصراط المستقيم، وتزكيتهم لأنفسهم بُنيت على الزهد المفرط بالصوم وأرق الليل وتعذيب النفس، حتى يصير أسير الحرمان، ويحمِّل نفسه ألواناً من البلاء، ويبدو دائماً كثير الأحزان والهموم والخوف والتشاؤم. (المنهاج القرآني في التشريع، مرجع سابق، ص164)

وعندهم في “شرائع منو” خلال القرن الثالث قبل الميلاد: (أن طالب العلم يتجنب الحلوى، واللحوم، والروائح الطيبة، والنساء، ولا يكتحل، ولا يلبس حذاءً، ولا يتظلل بالشمسية، وعليه ألا يهتم برزقه، بل يحصله بالتسول).

ومن تعاليمهم أيضاً: (عندما تدخل في الشيخوخة عليك بالتخلي عن الحياة الأهلية، وبالإقامة في الغابة، وإذا أقمت فيها؛ فليس لك أن تقص شعرك ولحيتك، وشواربك، ولا تقلم أظافرك).

(عود نفسك على تقلبات المواسم فاجلس تحت الشمس المحرقة، وعش أيام المطر تحت السماء، وارتدِ الرداء المبلل في الشتاء).

(لا تفكر في الراحة البدنية، اجتنب سائر الملذات، ولا تقترب من زوجتك، نم على الأرض، ولا تأنس بالمكان الذي أنت فيه) (مقارنة الأديان، لأحمد شلبي، ص60 ـ 70).

وبذلك ظهرت الذلَّة والمسكنة والمهانة والتشاؤم، وكثير من الأخلاقيات التي لا تليق بالإنسان بسبب هذا المعتقد الخبيث المنحرف عن هدي الله القويم. إن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: {إِنْ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143] ويقول أيضاً: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا *يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 27 ـ 28].

والآيتان الكريمتان تقرير من رب العالمين بأن دينه العظيم هو المنجي من مذاهب الانهماك المادي أو الانهماك البدني، وأنه الطريقة الوحيدة لإنقاذ البشرية من طغيان المادية الشهوانية التي مالت بالفطرة ميلاً جائراً حتى طمستها، ومن طواغيت الرهبانية الذين أثقلوها بالأغلال والآصار، وحجروا عليها واسعاً من فضل الله العظيم حتى فصموها. (المنهاج القرآني في التشريع، مرجع سابق، ص169)

إن للقرآن الكريم وسطيةً في باب الأخلاق بين غلاة المثاليين الذين تخيلوا الإنسان ملاكاً أو شبه ملاك، فوضعوا له من القيم والآداب ما لا يستطيعه، وبين غلاة الواقعيين، الذين حسبوه حيواناً أو كالحيوان، فأرادوا له من السلوك ما لا يليق، فاعتبروها خيراً محضاً، على عكس المثاليين الذين أساؤوا تقييمها أيضاً، فعدوها شرّاً خالصاً، وكانت نظرة القرآن وسطاً بين هؤلاء وأولئك.

فالإنسان كما صوره القرآن مخلوق مركب، فيه العقل، وفيه الشهوة، وفيه غريزة الحيوان، وروحانية الملاك، قد هُدي للنجدين، وتهيأ بفطرته لسلوك السبيلين، فإما شاكراً، وإما كفوراً، يملك استعداداً للفجور كاستعداده للتقوى، ومهمته جهاد نفسه ورياضتها حتى تتزكى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ** فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ** قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشمس: 7 ـ 10].

والقرآن الكريم وسطٌ في نظرته إلى حقيقة الإنسان بين النِّحَل والمذاهب التي تقوم على اعتباره روحاً علويّاً سجن في جسد أرضي، ولا تصفو هذه الروح، ولا تسمو إلا بتعذيب الإنسان وجسده، وبيم من اعتبره جسداً محضاً وكياناً ماديّاً صرفاً لا يسكنه روح علوي، ولا يختص بأيِّ نغمة سماوية.

أما الإنسان في القرآن فهو روح ومادة؛ لأن الله خلق الإنسان من تراب أو طين أو صلصال، وكلها تشير إلى الأصل المادي لبدن الإنسان، ثم أودع الله في هذه الآية شيئاً آخر، هو سر تميز الإنسان، ومنبع كرامته.

قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29].

والقرآن وسطٌ في النظرة إلى الحياة بين الذين أنكروا الآخرة واعتبروا هذه الحياة الدنيا هي كل شيء، وهي البداية والنهاية، {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 29]. وبهذا غرقوا في الشهوات، وعبَّدوا أنفسهم للماديات، ولم يعرفوا غرضاً يسعون له غير المنافع الفردية الدنيوية الفانية، وهذا شأن الماديين في كل مكان وزمان، وبين الذين رفضوا هذه الحياة، وألغوا اعتبارها من وجودهم، واعتبروها شرّاً يجب محاربته والتخلص منه، فحرَّموا على أنفسهم طيباتها وزينتها، وفرضوا عليها الابتعاد عن أهلها، والانقطاع عن عمارتها والإنتاج لها.

فالقرآن الكريم أعطى القيمة للحياتين، كلٌ على قدرها، وجمع بين الحسنيين، وجعل الدنيا مزرعة للآخرة، واعتبر العمل في عمارة الأرض والدنيا عبادة لله وأداء لرسالة الإنسان، وأنكر على غلاة المتدينين تحريم الزينة والطيبات، كما ينكر على الآخرين انهماكهم في الترف والشهوات. (الخصائص العامة في الإسلام، يوسف القرضاوي، ص139)

قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد: 12] ويقول تعالى: {يَابَنِي آدم خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ** قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[الأعراف: 31 ـ 32].

ويذكر القرآن: أن السعادة والحياة الطيبة في الدنيا من مثوبة الله لعباده المؤمنين، فيقول: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران:148]. ويعلم المؤمنين هذا الدعاء الجامع لحسنتي الدارين: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].


المراجع:

الوسطية في القرآن الكريم، د. علي محمد الصلابي، مكتبة الصحابة الشارقة، 1422هـ 2001م.
أبو الأعلى المودودي فكره ودعوته، د. سمير عبد الحميد إبراهيم، دار الأنصار.
المنهاج القرآني في التشريع، د. عبد الستار فتح الله سعد، مطابع دار الطباعة الإسلامية، الطبعة الأولى، 1413 هـ/ 1992م.
الخصائص العامة للإسلام، يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1415 هـ 1985م.
الإسلام والجاهلية، أبو علي المودودي، مؤسسة الرسالة بيروت، 1402هـ 1982م.
مقارنة الأديان (أديان الهند الكبرى)، د. أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية القاهرة، ط1.

عن الكاتب


شاركها.