موجة من طوفان الأقصى تصل إلى السودان
ياسين أقطاي يني شفق
بعد أن شهدت سوريا وغزة تطورات أدت إلى انتصارات لشعبيهما، حدثت تطورات بالغة الأهمية في السودان، الذي يُعد جوهرة أفريقيا، في مواجهة محاولة احتلال مستمرة منذ 21 شهرًا.
منذ حوالي 21 شهراً، وفي إطار خطط إسرائيل الكبرى تمكنت قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، بدعم من دول خليجية، من السيطرة على أجزاء هامة من السودان، بما في ذلك العاصمة الخرطوم، عبر انقلاب عسكري. إلا أن هذا السيطرة لم تكن سوى استيلاء ونهب وتدمير. فتشكيل قوات الدعم السريع كان في الأساس اً بالأحداث في دارفور، حيث سعى الرئيس السابق عمر البشير آنذاك إلى بناء قوات خاصة موالية له، خلال أحداث دارفور.
وقد ارتكبت هذه القوات جميع الممارسات الدموية التي دفعت عمر البشير إلى المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية. وتعتمد هذه القوات في تجنيدها على عناصر الجنجويد المنتشرة في السودان وتشاد وليبيا وإثيوبيا، والتي تتسم ثقافتها الحربية بالاعتماد على النهب والسلب كمصدر للعيش، دون أي التزام بقواعد الحرب وأخلاقياتها. فليس لديهم أي معايير أو ضوابط عندما يتعلق الأمر بالنهب والقتل.
في الواقع، تتألف هذه المجموعة من مقاتلين يشكّلون تهديدًا حتى لمن يستخدمهم، وبعد انتهاء أزمة دارفور قام عمر البشير بتعيين قائد هذه المجموعات، حميدتي، رئيساً لقوات الدعم السريع، ومنحه رتبة جنرال، رغم عدم تلقيه أي تدريب عسكري. وقد أنشأ البشير بنية عسكرية قائمة على الولاء الشخصي، حيث منح الرتب العسكرية لعناصره دون أسس تنظيمية.
إلا أنه بعد الإطاحة بعمر البشير عام 2019 على يد “الجبهة الوطنية للتغيير”، تم تشكيل “مجلس الثورة الشعبية” برئاسة عبد الفتاح البرهان، الذي اضطر إلى تسليم السلطة لحكومة حمدوك. لكن سياسات حكومة حمدوك، التي اتسمت بالعلمانية والشيوعية لم تحظَ بقبول شعبي، مما أدى إلى موجة من الاحتجاجات الشعبية التي أجبرته على التنحي.
وعادت السيطرة مجددا إلى المجلس العسكري، ولكن التوتر تصاعد بين عبد الفتاح البرهان قائد الجيش السوداني، وحميدتي قائد قوات الدعم السريع التي تعمل بشكل مستقل عن القيادة المركزية. وردًا على قرار البرهان بتوحيد جميع القوات تحت مظلة الجيش السوداني، قام حميدتي في أبريل 2023 بمحاولة انقلاب عسكري باستخدام قواته الخاصة واستولى على أجزاء واسعة من البلاد. ولكن كما ذكرنا لم يكن هذا الاستيلاء إلا عملية نهب استيلاء ونهب، حيث لم يتمكن من تحقيق أي استقرار أو إرساء نظام في المناطق التي سيطر عليها، بل ظلّت تلك المناطق تعاني من الفوضى التامة حتى يومنا هذا.
وللأسف ينظر العديد من الأطراف إلى الوضع في السودان على أنه تنافس بين طرفين متساويين في القوة وصراع داخلي ويقتصر تحليلهم على التكهّن بمن سيسيطر في النهاية. لكننا أوضحنا سابقًا بكل وضوح، أن الأمر ليس كذلك. فليس هناك طرفان متساويان يتصارعان. فحميدتي لا يمثل سوى قائد لجماعات مرتزقة جمعها من عدة بلدان، لا تتردد في نهب وتخريب المناطق التي يدخلونها وقتل الأبرياء بوحشية. ولا يحمل في جعبته أي رؤية أو مستقبل للشعب السوداني.
إن الصراع الدائر في السودان ليس تنافسا بين نهجين أو مجتمعين مختلفين، ولا هو حرب أهلية بين فئات متباينة من الشعب السوداني. بل هو نتيجة لمخطط عمر البشير الذي مهد الطريق أمام حميدتي لأهداف محددة، إلا أن حميدتي تجاوز كل الأهداف وحوّل هذا المخطط إلى فرصة استغلها لأبعد مدى، لكن بالطبع ليس بذكائه أو برؤيته الخاصة. وللأسف وراء هذا المشهد تقف أطراف من داخل العالم الإسلامي ذاته، وخاصة من دول الخليج، التي دفعتها مصالحها الرخيصة إلى تغذية هذه الفوضى، مما أدخل السودان في دوامة من الفوضى المستمرة منذ 21 شهرًا.
لقد وصل عدد القتلى المدنيين من الشعب السوداني إلى مئة ألف. كما بلغ عدد الأشخاص الذين نهبت و دُمرت منازلهم وشُردوا، سواء داخل البلاد أو خارجها، نحو 12 مليون شخص. وحتى الحكومة اضطرت إلى نقل مقرها إلى بورتسودان. وقد ذكرنا سابقًا أن إسرائيل كانت من بين القوى الداعمة لحميدتي.
لقد تمكن الجيش السوداني الذي حاز على دعم كامل من الشعب ومن جميع الأحزاب والقوى المدنية لفترة طويلة، من استعادة المناطق التي تم اجتياحها في خلال الأشهر القليلة الماضية تدريجيا، بدعم خاص من الفرق التطوعية المدنية التي تتألف في الغالب من شبان مسلمين. وبعد استعادة مدينة “ودمدني” أحد المراكز الهامة من أيدي ميليشيات قوات الدعم السريع قبل حوالي 15 يوماً، تغير مسار الحرب في السودان بشكل جذري، بعد 21 شهراً من الاحتلال.
وفي 23 يناير، تقدم الجيش السوداني بقوة من شمال العاصمة، وحرر مصفاة “جيلي” أهم مصفاة نفط في البلاد، ووصل إلى محور سلاح الإشارة الذي كان محاصرا منذ 21 شهرًا. وبعد عبور النهر، دخل إلى القيادة العامة ونجح في رفع الحصار عن المنطقة في صباح يوم الجمعة 24 يناير. وبهذا تم تحرير جزء كبير من الخرطوم، في حين فرّت عناصر الدعم السريع باتجاه الجنوب من جميع الجهات.
في الواقع، بدأت أعداد عناصر قوات الدعم السريع، التي بلغت في الأيام الأولى نحو 120 ألف مقاتل، بالتراجع تدريجيًا. ورغم تزويدهم بأسلحة متطورة من الخارج، إلا أنهم لم يجدوا في النهاية من يستخدم هذه الأسلحة، حيث فرّ الكثير منهم بسبب نفاد ما يمكنهم نهبه. وبذلك اتضحت نوايا الدول التي دعمت حميدتي، فقد بات جليًا أن غايتهم لم تكن يومًا مصلحة الشعب السوداني، كما هو الحال مع شعوب الدول الأخرى التي تدخلت في بلدانها بأساليب مشابهة.
وفي الخرطوم، ترد أنباء عن وجود قناصات جلبتهن قوات الدعم السريع من إثيوبيا ونُشرن على المباني الشاهقة. قصصهن تثير الرعب. فقد تم تدريبهن في معسكرات وخضعن لتعليم شيوعي صارم، ولم يكن لديهن أي حياة عائلية، بل تم تدريبهن على القتال والحرب منذ الصغر. وهناك دول توصف بأنها “متحضرة” تستثمر على المدى الطويل في تدريب مثل هؤلاء الأشخاص. فكيف يمكن الوعد بمستقبل مشرق للسودان بوجود أمثال هؤلاء القناصات اللاتي يُطلقن الرصاص عشوائيًا ويقتلن الناس؟
وفي نهاية المطاف، وكما سقط نظام الأسد الذي دام 61 عامًا، وكما مُنيت إسرائيل بالفضيحة والخذلان رغم كل القوى الداعمة لها في غزة، فإن حميدتي والقوى التي تقف خلفه، التي تسعى إلى تكرار سيناريو المجازر والاحتلال في السودان، قد باؤوا بالفشل الذريع.
لقد تحقق هذا الانتصار الكبير بفضل وحدة الشعب السوداني، والتفافه حول قواته المسلحة، وإصراره على الدفاع عن أرضه وعرضه وممتلكاته، رغم تمرد قوات الدعم السريع والاعتداءات الخارجية والانتهاكات المروعة التي ارتكبتها هذه الميليشيات المدعومة إقليميا.
وبهذا الانتصار أثبت السودان مجددا حقيقة بالغة الأهمية وهي أن الشعوب الحرة لا يمكن إخضاعها بوسائل الاستعمار القديم، ولا عبر الاحتلال العسكري والهجمات الغاشمة. ورغم أن السودان أُرغم على خوض هذه الحرب الدفاعية في أضعف حالاته، من حيث العتاد والتجهيزات، إلا أن الشعب سرعان ما توحد حول قواته المسلحة، وأمدّها بقواه الفتية والديناميكية، مما مكنه من التصدي لمشاريع الهيمنة والعدوان.