ميرز وأوروبا الجديدة: هل يشكل الاستقلال الأوروبي فرصة لفلسطين؟

إسلام الغمري خاص اخبار تركيا
في لحظة فارقة، قاد فريدريش ميرز حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي إلى فوز واضح في الانتخابات الألمانية، معلنًا في 23 فبراير 2025 أن أولويته المطلقة هي تعزيز استقلال أوروبا عن الولايات المتحدة. هذا التحول، الذي يأتي بعد عقود من التبعية السياسية والاستراتيجية لأمريكا، يفتح الباب أمام تساؤل جوهري: كيف ستتغير السياسة الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية؟ هل يمهد هذا الاستقلال لسياسة أكثر توازنًا تجاه فلسطين، أم أنه سيعيد إنتاج الانحياز التقليدي لإسرائيل تحت غطاء جديد؟
لطالما لعبت أوروبا دورًا محوريًا في دعم إسرائيل، بدءًا من وعد بلفور البريطاني عام 1917، الذي منح الحركة الصهيونية دعمًا سياسيًا لاحتلال فلسطين، وصولًا إلى الدعم الألماني المستمر بعد الحرب العالمية الثانية، والذي بُرر بـ”المسؤولية التاريخية” عن المحرقة. لم يكن هذا مجرد موقف سياسي عابر، بل جزءًا من تحالف غربي صلب تقوده الولايات المتحدة، التي قدمت لإسرائيل أكثر من 300 مليار دولار منذ 1948، واستخدمت الفيتو 46 مرة لحمايتها في مجلس الأمن. في هذا السياق، التزمت أوروبا غالبًا موقف الصمت أو الدعم غير المشروط، حتى عندما أدانت محكمة العدل الدولية الاحتلال في يوليو 2024، دون أن تترجم ذلك إلى خطوات فعلية.
مع إعلان ميرز رغبته في الابتعاد عن واشنطن، قد يبدو للوهلة الأولى أن أوروبا تتحرر من ضغوط أمريكية طالما أثرت على مواقفها تجاه فلسطين. لكن الواقع أكثر تعقيدًا. ميرز، السياسي المحافظ الذي يتبنى مواقف متشددة تجاه الهجرة ويؤمن بمركزية ألمانيا في المشروع الأوروبي، لم يُظهر بعد أي مؤشرات على تغيير جذري في سياسة بلاده تجاه القضية الفلسطينية. بل إن حزبه، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، ظل تاريخيًا داعمًا لإسرائيل، متمسكًا بمبدأ “أمن إسرائيل جزء من أمن ألمانيا”. إذا استمر هذا النهج، فقد يعني الاستقلال الأوروبي مجرد إعادة صياغة للدعم التقليدي لإسرائيل تحت شعار “السيادة الأوروبية”، دون أي تحولات ملموسة لصالح الحقوق الفلسطينية.
لكن ثمة سيناريو آخر لا يمكن تجاهله. إذا نجح ميرز في بناء أوروبا مستقلة حقًا، فقد تتحرر بعض الدول الأوروبية من الضغوط الأمريكية التي أعاقت مواقف أكثر عدالة تجاه فلسطين في الماضي. شعوب أوروبا، التي خرجت بمئات الآلاف خلال السنوات الأخيرة تضامنًا مع غزة، قد تجد صوتها أكثر تأثيرًا في ظل قيادة لا تخضع بالكامل للإملاءات الأمريكية. هذا قد يفتح المجال أمام قرارات أوروبية أكثر جرأة، مثل الضغط لتطبيق قرارات المحاكم الدولية، والحد من العلاقات العسكرية والاقتصادية مع إسرائيل، أو حتى التحرك لرفع الحصار عن غزة، التي بدأت تنهض من جديد كما رأينا في عودة سوق الفلاحين هذا الأسبوع.
لكن هذا السيناريو يظل رهينًا بعوامل أخرى، أبرزها طبيعة العلاقة التي سيعيد ميرز تشكيلها مع فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وهي دول أظهرت في بعض المحطات مرونة أكبر تجاه القضية الفلسطينية. كذلك، فإن التوجه الأوروبي الجديد قد يتمحور حول المصالح الاقتصادية والتنافس الجيوسياسي مع واشنطن، دون أن يتضمن بالضرورة مراجعة للمواقف الأخلاقية تجاه فلسطين. إذا ركز ميرز على تعزيز القوة الاقتصادية والعسكرية لأوروبا دون إعادة تقييم سياساتها الخارجية، فقد تبقى القضية الفلسطينية في هامش الأجندة الأوروبية، وتظل الشعوب وحدها القادرة على إبقاء هذا الملف حاضرًا في مراكز صنع القرار.
في النهاية، مصير السياسة الأوروبية تجاه فلسطين في عهد ميرز لن يتحدد بقرارات المستشار الألماني وحده، بل بمدى قدرة الشعوب في أوروبا وفلسطين على فرض إرادتها. لقد علمنا التاريخ أن التغيير لا يأتي من قاعات الدبلوماسية وحدها، بل من الميادين، من الاحتجاجات، ومن الإرادة الجماعية لشعوب ترفض الظلم. وإذا كان ميرز جادًا في بناء أوروبا مستقلة، فإن أول اختبار لهذه الاستقلالية هو مدى قدرتها على التحرر من الإرث السياسي الذي جعلها لعقود شريكًا في ترسيخ الاحتلال الإسرائيلي. الأيام القادمة وحدها ستحمل الإجابة، لكن الثابت الوحيد هو أن فلسطين ستظل القضية المركزية التي لا يمكن لأوروبا أن تتجاهلها إلى الأبد.