اخبار تركيا
استعرض تقرير للمحلل والخبير الاستراتيجي التركي يحيى بستان، مآلات الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران، وتحولها إلى لحظة مفصلية في إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية في الشرق الأوسط.
ويركّز التقرير الذي نشرته صحيفة يني شفق على تموضع إسرائيل كلاعب مهيمن يسعى لاستثمار الفراغ الأمريكي عبر تصعيد محسوب، مقابل توجه أمريكي لاحتواء التصعيد وربطه بمشاريع تطبيع أوسع تشمل سوريا.
كما يتناول احتمالات انتقال التوتر إلى الجبهة السورية، خاصة في ظل تباين الرؤى بين إسرائيل وتركيا، ويُبرز البُعد الجيوستراتيجي الذي يجعل من أي صدام بينهما أكثر تعقيداً.
وفي الخلفية، تبرز مخاوف من عودة داعش، وتكهنات حول اليوم “الثالث عشر” من الحرب، كناية عن جولة تصعيد محتملة في حال توفر الذريعة المناسبة. يقول الكاتب.
وفيما يلي نص التقرير:
بعد وقف إطلاق النار مع إيران، صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو قائلًا: “لقد وضعت إسرائيل نفسها في مصاف القوى العظمى في العالم”.
إن كل ما تشهده المنطقة في السنوات الأخيرة هو صراع على الهيمنة الإقليمية. فمع استعداد الولايات المتحدة لتقليل نفوذها في المنطقة، يدور الصراع حول من سيملأ الفراغ ويحرث الأرض التي ستتركها خلفها.
لقد نجحت إسرائيل في شلّ إيران وإضعاف قدرتها، وحققت تموضعًا قويًّا في مركز القوة الإقليمية. فما الخطوة التالية؟ في تعليق لافت لأحد المعلقين الرياضيين الإسرائيليين، قال — قبل أن يتراجع مدعيًا أنه كان يمزح —: “هزمنا حماس في ربع النهائي، وإيران في نصف النهائي، أما في النهائي فسنواجه تركيا.” ” الكثيرون في تركيا يفكرون مثل ذلك الإسرائيلي. هل ستُلعب “المباراة النهائية” في سوريا؟ إذا كان الأمر كذلك، فماذا يعني أن تُطلّ شواطئ تركيا على إسرائيل؟ دعونا نناقش ذلك..
متى يبدأ اليوم الثالث عشر من الحرب؟
لقد باتت الصورة أكثر وضوحًا الآن: لقد اتفق ترامب ونتنياهو قبل بدء الهجوم الإسرائيلي. وقد كتبنا الإطار العام سابقًا: ستهاجم إسرائيل إيران، وبما أن إسرائيل لا تملك القدرة على ضرب المنشآت تحت الأرض، ستتدخل الولايات المتحدة بشكل مباشر في الصراع.
ويبدو أن الاتفاق تضمّن بندًا إضافيًا بدأ يتضح هذا الأسبوع، وهو أن ترامب قال لرئيس الوزراء الإسرائيلي — على الأرجح —: “سأتولى ضرب منشأة فوردو بنفسي، ثم نغلق هذا الملف.” وقد بدا ذلك جليًا من رد فعل ترامب الغاضب والمشحون بالشتائم، عندما أقلعت الطائرات الإسرائيلية مجددًا رغم التوصل إلى وقف لإطلاق النار. وقد أطلق ترامب على هذه العملية اسم “حرب الـ 12 يوما”، ولم يكن يرغب في إطالة أمدها. ولكن يبدو أن رؤية نتنياهو للصراع تختلف جذرياً عن رؤية ترامب.
هل سربت إسرائيل التقرير الأمريكي؟
تسعى الولايات المتحدة، التي ترغب في التركيز على الصين، منذ فترة إلى بناء هيكلية في المنطقة تتمحور حول التطبيع العربي الإسرائيلي. وفي 2 فبراير 2024، كتبنا: “الولايات المتحدة تقول “سأنسحب من المنطقة” ولكن بشرط واحد.” وهذا الشرط هو ضمان أمن إسرائيل.”
ومن جهة أخرى تسعى إسرائيل لفرض هيمنتها في المنطقة في ظل غياب الولايات المتحدة، ومن هنا يأتي سعيها لإلحاق أكبر قدر من الضرر بإيران بعد سيطرتها على المجال الجوي. لقد توقفت إسرائيل تحت ضغط ترامب، لكنها غير راضية ولا تزال تترقب الفرصة. ويدعون الآن أن تركيزهم منصب على غزة.
ولكن طبيعة تل أبيب معروفة: ما إن تلوح الفرصة وتتوفر الذريعة، حتى تبدأ “اليوم الثالث عشر”. وقد أشار التقرير المسرب من استخبارات الجيش الأمريكي إلى أن “البرنامج النووي الإيراني تأخر لبضعة أشهر فقط”، ويحمل التقرير في طياته رسالة ضمنية مفادها أن “الهجمات على إيران يجب أن تستمر”. وهذا بمثابة ضغط على ترامب. ويُرجَّح أن التسريب تمّ على يد ضباط أمريكيين موالين لإسرائيل وإن لم يكن بالإمكان إثبات ذلك.
تطورات إيجابية في سوريا
والآن ننتقل إلى البعد المتعلق بتركيا من القضية. ترغب الولايات المتحدة وتركيا في رؤيى سوريا قوية ومستقلة، ومندمجة في النظام العالمي، ومتصلة بالتحالف العربي وقادرة على الاعتماد على نفسها. لقد رُفعت العقوبات. وخفضت الولايات المتحدة عدد قواعدها في سوريا من 9 إلى 5، وسيتبقى قاعدة واحدة بحلول نهاية العام. يوجري حث “قسد” على الاندماج في الجيش السوري. وقد تم إنشاء خلية استخبارات سورية تركية أردنية في دمشق لمكافحة داعش. ولا يزال موضوع انتشار الجنود الأتراك في البلاد لمكافحة داعش ضمن إطار اتفاق مع دمشق مطروحًا على الطاولة.
نتنياهو طلب وساطة ترامب
أما الموقف الإسرائيلي من الملف السوري، فكان مختلفًا تمامًا. إذ إن تل أبيب تفضل دومًا بقاء سوريا ضعيفة ومنقسمة، ومن هنا نشأ التوتر مع أنقرة. ورغم التحذيرات الموجهة إلى نتنياهو بضرورة “التحلي بالعقلانية”، فقد عارض وجود القوات التركية في جنوب سوريا، قائلاً لأنقرة: “ابقوا في الشمال، ونحن سنبقى في الجنوب.” (وكما تعلمون، كانت هناك جهود لإنشاء آلية لعدم الاشتباك، وقد نجحت هذه الآلية فعليًا في الليلة الأولى من الهجوم الإسرائيلي على إيران).
ولكن إن لم أكن مخطئًا ثمة تحوّل في المواقف. فالولايات المتحدة باتت أقرب إلى إسرائيل في ما يتعلق بغزة وإيران، فيما اقتربت إسرائيل من واشنطن في ملف سوريا. وهناك أنباء تفيد بأن نتنياهو طلب من الولايات المتحدة الوساطة لإبرام اتفاق سلام شامل مع سوريا. وتعمل واشنطن حاليًا على ضم دمشق إلى “اتفاقات إبراهيم”، إلا أن المملكة العربية السعودية — كما هو معلوم — ترفض الإقدام على أي خطوة في هذا الاتجاه ما لم يتحقق تقدم إيجابي في غزة. ويمكن فهم تصريحات المبعوث الأمريكي الخاص، ويتكوف، الذي قال إن “وقف إطلاق النار في غزة بات قريبًا جدًا”، في ضوء هذا السياق.
تصاعد تهديد تنظيم داعش
تتمثل المشكلة المتفاقمة في سوريا حالياً في تهديد تنظيم داعش الإرهابي. فقد شنوا مؤخرًا هجومًا إرهابيًا على كنيسة في دمشق، وأعلنت السلطات السورية أن منفذي الهجوم قدموا من مخيم الهول الذي تسيطر عليه “قسد”. وهنا يثار سؤال مهم: إذا قررت أنقرة، بناءً على دعوة من حكومة دمشق، نشر قواتها في سوريا لمواجهة تنظيم داعش، فهل سيؤدي ذلك إلى مواجهة مباشرة بين تركيا وإسرائيل؟ أعلم أن هذا السؤال يُطرح كثيرًا، بل حتى في مؤتمر صحفي ضمن حلف الناتو تم توجيه سؤال إلى الرئيس أردوغان بدأ بـ: “إذا نشب نزاع بين تركيا وإسرائيل…”، فأجاب قائلاً: “تركيا هي دولة السلام في منطقتها ما لم تتعرض لهجوم.”
الدوافع الجيوستراتيجية
من هذا الرد نفهم أن تركيا لا تسعى إلى الصراع. فهل تجرؤ إسرائيل على فعل شيء كهذا؟ لا تستطيع. وقد أوضحت الأسباب في مقال سابق. والآن ظهر سبب جديد خلال “حرب الـ 12 يومًا”، وهو سبب جيوستراتيجي.
تكمن قدرة إسرائيل على مهاجمة إيران ليس بالأمس بل اليوم في قطع الاتصال البري بين إيران وإسرائيل عبر خط سوريا ولبنان. وهكذا، حصرت إسرائيل الحرب في المجال الذي تتمتع فيه بميزة، وهو الجو، مما قيد يد طهران وأعاق تحركاتها.
أما في تركيا، فالوضع مختلف. فتركيا لديها اتصال بحري بإسرائيل، حيث تطل شواطئها الجنوبية على إسرائيل. وهناك الآن اتصال بري أيضًا على طول الخط السوري. فإذا وقع هجوم على تركيا، فلن يبقى الأمر محصورًا في الجو فقط، بل سينتقل إلى البر والبحر أيضًا، وما يعنيه ذلك واضح للجميع. ومن هنا لا يرغب أحد في الدخول في حرب من هذا النوع.