اخبار تركيا

في مقال بموقع الجزيرة نت، تناول الكاتب والباحث في الشؤون التركية سمير العركي، خلفيات التصعيد الكلامي الأخير بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على خلفية نقش “سلوان” الأثري.

ويوضح العركي كيف أعاد نتنياهو إثارة قضية قديمة تتعلق بطلب إسرائيل استعادة النقش الموجود في متحف بإسطنبول، مستغلاً حدثاً في القدس وحضور وزير أميركي لتوجيه رسائل سياسية أوسع.

ويرى أن القضية تتجاوز الخلاف على قطعة أثرية، إذ يستخدمها نتنياهو لتأكيد “يهودية” القدس، ومهاجمة الدور التركي المتصاعد، وإيصال رسائل ردع لتركيا والدول العربية والإسلامية في ظل تصاعد الصراع الإقليمي بعد عملية طوفان الأقصى.

وفيما يلي نص المقال:

من جديد عادت الملاسنة الشديدة بين الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على خلفية نقش “سلوان” الذي برز إلى الواجهة فجأة، ساترا خلفه الأسباب الحقيقية التي دعت نتنياهو إلى تفجير القضية.

فالأمر، في تقديري، لم يكن مجرد خلاف قديم متجدد، بشأن تسليم تركيا نقشا حجريا أثريا تريده إسرائيل.

فإعادة الخلاف إلى الواجهة وفي حضور وزير أميركي، يرتبط بالعديد من الأسباب التي سيحاول المقال تلمسها.

توظيف التاريخ

حتى أيام قليلة مضت لم يكن أكثر المتابعين يعرفون نقش “سلوان” أو يسمعون به، حتى قرر نتنياهو إخراجه من متحف التاريخ، لتحويله إلى أداة في الصراع المتطور الذي تشهده المنطقة منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى قبل نحو عامين.

ففي منتصف سبتمبر/أيلول الجاري، وخلال فعالية “افتتاح النفق القديم” في مدينة القدس المحتلة، وبحضور وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، أعلن نتنياهو وجود نقش حجري قديم يثبت حسب زعمه أحقية اليهود بالقدس، وأضاف أن هذا النقش موجود في تركيا، وأنه حاول استعادته أثناء ولاية رئيس الوزراء السابق، مسعود يلماز، الذي رفض بدوره طلب نتنياهو آنذاك؛ متعللا بوجود مد إسلامي متصاعد في البلاد بقيادة رئيس بلدية إسطنبول حينها، رجب طيب أردوغان، وأنه (أي يلماز) يخشى من رد فعل الشارع المعبأ إسلاميا حال تسليم النقش لإسرائيل.

الطلب الإسرائيلي نهاية التسعينيات لم يكن الوحيد، ففي عام 2007، طلب رئيس بلدية القدس، أوري لوبوليانسكي، من السفير التركي لدى إسرائيل، نامق تان، تسليم النقش كـ”بادرة حسن نية”. لكن الطلب قوبل بالرفض.

ثم عادت وزيرة الثقافة الإسرائيلية السابقة، ميري ريجيف، عام 2017 لتجدد العرض للسلطات التركية مقابل تقديم تل أبيب “فيلين” هدية إلى حديقة الحيوانات في مدينة غازي عنتاب، لكن أنقرة جددت رفضها أيضا.

وأخيرا في عام 2022 استغل الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، زيارته أنقرة في مستهل مشوار إعادة التطبيع بين البلدين حينها، والذي توقف إثر طوفان الأقصى، وأعاد طرح الموضوع حتى إن وسائل إعلام إسرائيلية زعمت أن تركيا وافقت على إعادة النقش، لكن اتضح أن الطلب رفض، كما حدث في الطلبات السابقة.

ورغم كل هذا الرفض المتكرر من الجانب التركي قبل وبعد تولي أردوغان حكم البلاد، فإن نتنياهو قرر هذه المرة التصعيد، إذ خاطب الرئيس التركي بقوله:

“سيد أردوغان، القدس ليست مدينتك، بل مدينتنا. ستبقى دائما كذلك، ولن تُقسم مرة أخرى. لهذا السبب أُقدر قيادة الرئيس ترامب الذي أعلن القدس عاصمة لنا. ويسعدني وجود ماركو روبيو معنا، فهو يدرك أن هذا يمثل أساس تراثنا المشترك اليهوديالمسيحي”.

نتنياهو كان في الحقيقة يرد على خطاب قديم لأردوغان ألقاه في أكتوبر/تشرين الأول 2020 في البرلمان التركي، في افتتاح السنة التشريعية الجديدة، قال فيه:

“… القدس مدينتنا، مدينة منا، وهي قبلتنا الأولى، المسجد الأقصى وقبة الصخرة في القدس، وهما أيضا رمزان لديننا. علاوة على ذلك، فإن هذه المدينة موطن للأماكن المقدسة المسيحية واليهودية. إن حقيقة أن أراضي الشعب الفلسطيني، سكان القدس والمنطقة منذ آلاف السنين، محتلة ومنتهكة حقوقهم، تتطلب منا اهتماما وثيقا بهذه القضية”.

مرت كلمات أردوغان قبل نحو خمس سنوات مرور الكرام وطواها النسيان منذ ذلك الحين، لكن نتنياهو المتحفز دائما ضد الرئيس التركي لم ينسها، وانتظر كل هذه المدة ليرد عليها بحضور الوزير الأميركي، وفي أتون إبادة مروعة تنفذها قواته في قطاع غزة، وفي اليوم الذي عقدت فيه القمة العربية الإسلامية في مدينة الدوحة؛ دعما لقطر في مواجهة العدوان الإسرائيلي.

لكن هل يستحق النقش الأثري مثل هذه المحاولات الممتدة عبر ثلاثة عقود، وهذه الملاسنات التي اندلعت فجأة، وإن أتت في سياق مشتعل بطبيعة الحال.

أهمية النقش

إسرائيل التي نبتت فجأة على حافة التاريخ الإنساني، وتمكنت بمساندة القوى الاستعمارية الكبرى، من اغتصاب وطن اسمه فلسطين، وأسست عليه دولة صهيونية ذات عقيدة استئصالية، يهمها إثبات مزاعمها بأحقيتها في أراضي الشعب الفلسطيني، الذي يتعرض منذ عقود، للتهجير، والنزوح، وسياسات الفصل العنصري.

لذا، يعد النقش واحدا من أهم ثلاث قطع تاريخية، تعد دليلا من وجهة النظر الصهيونية على أن الجذور الثقافية والدينية لليهود في القدس تمتد إلى آلاف السنين.

فالنقش عثر عليه في نفق بمدينة القدس عام 1880، وكانت المدينة آنذاك خاضعة للسيادة العثمانية الإسلامية، ويخلد قصة شق نفق لمد مدينة القدس بالمياه.

إذ تقول القصة التاريخية باختصار، إن الآشوريين حاصروا المدينة المقدسة، قبل نحو ثلاثة آلاف عام، ما أدى إلى وجود مصاعب في وصول المياه من “نبع سلوان” إلى المدينة، حينها فكر الملك “حزقيا” في حفر نفق يصل المدينة بنبع المياه مباشرة لتأمين وصول المياه لمن هم بداخلها، وبعد اكتمال شق النفق، تم تدوين كيفية إنجاز المشروع بنص عبري مدون على لوح من الحجر عثر عليه على مدخل النفق.

ولم يثر النقش أي جدل حينما تم العثور عليه، فلم تكن “دولة” إسرائيل، قد ظهرت إلى العلن بعدُ، لذا تم ترميم الحجر وإرساله لاحقا إلى المتحف الإمبراطوري في إسطنبول، علما بأنه توجد منه عدة نسخ مزورة بجانب النسخة الأصلية.

نعود إلى السؤال الأساسي للمقال المتعلق بالأسباب الحقيقية التي أدت إلى تصعيد نتنياهو حدة الملاسنة ضد أردوغان.

أسباب التصعيد

منذ انطلاق طوفان الأقصى لم تتوقف الملاسنات البينية بين تركيا وإسرائيل، سواء في صورة تصريحات فردية لمسؤولين، أو بيانات صادرة من مؤسسات رسمية ردا على مثل هذه التصريحات.

لكن نتنياهو صعّد هذه المرة وقد اختار تفاصيل المكان والزمان بعناية فائقة، فالمكان من القدس المحتلة وبحضور وزير الخارجية الأميركي، أما الزمان فيمثل مرحلة جديدة من التصعيد الإسرائيلي ليس ضد الشعب الفلسطيني فقط، بل طال معظم دول المنطقة، فيما تبقى أخرى مرشحة للاستهداف، وفي مقدمتها تركيا، ومصر.

لذا، ففي تقديري أن نتنياهو أراد إرسال عدة رسائل بمثل هذا التصعيد الكلامي أهمها:

أولا: الإشارة إلى أن المواجهة الإسرائيلية ضد تركيا ربما تكون مسألة وقت، فالصعود المطرد للصناعات الدفاعية التركية يزعج نتنياهو بشدة، خاصة مع ما تتمتع به أنقرة من مكانة إستراتيجية في النظام الإقليمي.

لذا، اختار رئيس الوزراء الإسرائيلي التصعيد باستهداف أردوغان شخصيا، باعتباره عدوا قديما للدولة العبرية منذ أن كان رئيسا لبلدية إسطنبول، إذ حال وجوده في ذلك المنصب دون تسليم مسعود يلماز النقش لإسرائيل، فما هو الحال إذن وقد تسلم رئاسة الدولة التركية وقبلها رئاسة الوزراء منذ أكثر من عشرين عاما؟

ثانيا: التذكير بخطورة استمرار أردوغان رئيسا لتركيا على المشروع الصهيوني في المنطقة. فأردوغان يمثل من وجهة النظر الصهيونية الامتداد الإسلامي للسلطان عبدالحميد آخر السلاطين العثمانيين الفعليين الذي رفض مسايرة ثيودور هيرتزل في شراء الأراضي الفلسطينية آنذاك.
ثالثا: كذلك أراد نتنياهو أيضا تذكير البيت الأبيض بصفة خاصة بخطورة أردوغان على دولة إسرائيل، في ظل العلاقة الجيدة التي تربط أردوغان بالرئيس الأميركي، حيث من المتوقع أن يلتقي الطرفان في واشنطن يوم 25 سبتمبر/أيلول الجاري حسبما أُعلن عنه مؤخرا.

وهذا التقارب التركي الأميركي يصيب نتنياهو بالانزعاج الشديد، خاصة أن ترامب سبق أن حذر نتنياهو ضمنيا من التعرض لتركيا، وأمره أثناء وجوده في البيت الأبيض في أبريل/نيسان الماضي بـ”التصرف بعقلانية لحل أي مشكلة مع تركيا”.

رابعا: أيضا أراد نتنياهو إبراق رسالة إلى القمة العربية الإسلامية المنعقدة في الدوحة، أن إسرائيل لن تكون بمفردها في مواجهة أي تحالف عربي إسلامي، بل تمثل مع الولايات المتحدة “التراث اليهودي المسيحي المشترك”.

كما أن هذه الرسالة كان من الضروري أن يسمعها روبيو بوضوح حتى يتأكد لديه وحدة المصير المشترك مع الدولة العبرية، في ظل انفتاح المنطقة على سيناريوهات مختلفة، ردا على العربدة الصهيونية.

خامسا: تأكيد نتنياهو بحضرة وزير الخارجية الأميركي، على “يهودية” القدس، وبالتالي فليس ثمة أمل في وجود دولة فلسطينية مستقلة، وهذه رسالة ليس لتركيا ولا للدول العربية والإسلامية فقط، بل لجميع دول العالم، وفي مقدمتها الدول الأوروبية بعدم جدوى المساعي المبذولة للحصول على مزيد من الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية.

والخلاصة

أراد نتنياهو توظيف ورقة النقش الحجري الأثري، في معركته الحالية التي يرمي من ورائها إلى تهويد فلسطين بأكملها، لكنه لم يكن يعرف أنه منح أردوغان شهادة مهمة أمام الرأي العام سواء في تركيا، أو في العالم الإسلامي، أنه يواجه المشروع الصهيوني منذ أن كان رئيسا لبلدية إسطنبول، الأمر الذي يحسب له دونما شك.

شاركها.