اخبار تركيا
تناول تقرير بمجلة كريتيك باكيش الفكرية التركية تحوّلًا جذريًا في مسار المسألة الكردية في تركيا، مشيرًا إلى نهاية مرحلة دامية استمرت خمسين عامًا وبداية عملية مصالحة تاريخية، يتجلى فيها انخراط المجتمع، والسياسة، وحتى التنظيمات المسلحة في مسار جديد يسعى للسلام.
ومن خلال لغة رمزية متأثرة بأدب خورخي لويس بورخيس، يعكس كاتب التقرير د. مصطفى إكيجي، عبثية السرديات الأيديولوجية التي غذت الصراع، مقابل حكمة “ذاكرة الأرض” التي تمثل الحقيقة المتجذّرة في الواقع والتاريخ.
وفي هذا السياق، يُبرزإكيجي قوة المصالحة، وعودة الروح إلى الأرض، وتلاشي الحدود المصطنعة، مؤكدًا أن الوطن أوسع وأعمق من الخطابات القومية والانقسامات. وفيما يلي نص التقرير:
هناك مبادرات وتطورات بالغة الأهمية تشير إلى نهاية المرحلة الدموية التي هيمنت على تاريخنا في الخمسين عاماً الأخيرة. منظمة حزب العمال الكردستاني PKK تقيم حفلا لحرق الأسلحة أمام وفد من المراقبين الدوليين، وتعمل الأحزاب السياسية في البلاد على إجراءات تشريعية مهمة، بينما يقدم المجتمع دعمه الواضح لهذه العملية برمتها. بالنسبة للأجيال التي نشأت في خضم هذه الأحداث، فإن ما يحدث أشبه بقصة خيالية من تأليف خورخي لويس بورخيس. بأسْلوبه الساحر الذي يذهل العقول في كل مرة، يصف بورخيس في قصصه التي تنتهي بطرق غير متوقعة عبثية الفعل البشري في أغلب الأحيان، ويصوّر ضعف وعجز الإنسان أمام القدر مثل حشرة عالقة في شبكة عنكبوت، ليطبع هذه الصورة في أذهاننا. وكأن كل شيء يتطور داخل المشهد الباطني (الإيزوتيريكي) لقصة “النبي المقنع”. [1]
في جبال قنديل على الحدود العراقية الإيرانية، حيث يتمركز حزب العمال الكردستاني داخل مئات الكهوف، يشبهون طائفة باطنية من العصور الوسطى؛ مرعبون، غامضون، يغذون وينمون الخوف والآمال من خلال عملياتهم الفدائية الدموية، مما يثير غضباً عارماً يصعب كبحه في جانب من البلاد، بينما يولدون آمالاً ومخاوف غامضة يصعب فهمها في الجانب الآخر. وبالمثل، فإن مراكز القوى الأخرى التي تعتمد على مؤسسات الدولة المنخرطة في كفاح وتضحيات ضد الإرهاب، تفرض على المجتمع خوفاً وجودياً ثقيلاً من حرب أهلية وانقسام قد ينفجران في أي لحظة، وتعمّق الانقسامات عبر هويات مصطنعة، كل ذلك من داخل نسيج سياسي باطني لا يقل غموضاً عن حزب العمال الكردستاني.
حقيقة أن كلا السردين قائم على خيال مدروس بعناية، وأن الحديث عن هذه الحقيقة يشبه كشف سر خطير، وأن إفشاء هذا السر قد يُعتبر “خيانة” تُقابل بعواقب وخيمة كل هذا يجعل العملية برمتها سريالية كقصة من تأليف بورخيس. نزاع دامٍ استمر خمسين عاماً، والكون الأيديولوجي والسياسي الهائل الذي بُني عليه، يتحطمان فجأة كأنهما زجاج، تاركين وراءهما إحساساً مريراً بالعبث واليأس في نفوس من كرّسوا حياتهم لهذه العوالم. لقد اتضح أن مؤلفي هذه “الرواية البورخيسية” الدموية ليسوا أنبياء مخلّصين، بل محتالون مثل الحاكم المروزي (أحد شخصيات بورخيس)، وأن القوة التي توهموها في أنفسهم ليست سوى وهم. لقد تحطمت الحيلة الشيطانية التي حولت نزاعاً بسيطاً كخلاف بين جيران إلى بناء خيالي هائل كلف حياة عشرات الآلاف، بلمسات صغيرة. لأن الخيال الشيطاني اصطدم بحائط الحقيقة. ففي مقابل الكون اللامتناهي للإمكانيات المنسوجة من الواقع، يبدو عالم الخيال هشاً ومصطنعاً. إن الوجود الإنساني متجذر في الأرض، بها، بينما الخيال معلق وواهم. وفي مقابل الذاكرة اللامتناهية للأرض، لا يتحرك الخيال إلا بحسابات الاحتمالات.
لا توجد قوة يمكنها مقاومة ذاكرة الأرض. لأن الأرض تمسك بجوهر الوجود. والإنسان يكتسب وجوده في عالم من المعاني المتشعبة والممتدة والمتعمقة باستمرار فوق الأرض وتحتها وفي أبعادها. وهكذا يتجلى الوجود البشري الملوّن، كالعشب الذي يمد عنقه من التربة، أو كالزنبق والقرنفل، على سطح الوجود. ومع ذلك، رغم أن الإنسان يظهر في الطبيعة، فهو الكائن الوحيد غير الطبيعي. وكالريح التي تعكر صفو السكينة في الطبيعة، يثير الفعل البشري الغبار والدخان في كثير من الأحيان، ويشن حملات دموية، ويخلّف الآثار، ويصخب، ثم تعود السكينة من جديد. لأن الأرض تمسك بجوهر الوجود.
ذاكرة الأرض ليست صلبة، بل تتغير ببطء يبعث على الملل، وبإيقاع طويل يطحن الأجيال البشرية. تتغير وتتحول بالفعل البشري، وبقدرة الله، وبحركة الأرض ومقاومتها. لا توجد في الإنسان قدرة على إدراك هذا. الإنسان هو مجرد عامل مؤثر في هذا التغيير بقدر ما يتمكن من التواصل مع ما هو منغرس في الأرض، بالعقل والحكمة والصبر.
لقد خلّفت الحملات التي نُفذت عبر الأنفاق المحفورة تحت بيوتنا جروحاً دامية في جنب الأرض. تعرضت العديد من الكلمات والمعاني المخزونة في ذاكرة الأرض العميقة، والعديد من الأغاني الحزينة التي تقطع القلب، للاهتزاز بعنف. تراكمت على صدر الأرض آلام دموية اختلطت بأنات كثيرة من الأمهات. لكن لكل هذا تأثير ضئيل في ذاكرة الأرض. تهب الريح، فتثير بعض الغبار، وتحرك بعض الحشائش، وتكسر بعض الأغصان، ثم تعود السكينة مرة أخرى، ويهطل المطر، وتنفخ الروح في البذور، وتستمر الحياة بتحدٍ. تغلق تلك الأنفاق ببطء، وتشفى تلك الجروح الدامية، وتتعالى من السهول أغانٍ جديدة تختزل آلام المعلّمة شيناي، والطفلة جيلان، والإخوة الآخرين، وأنات الأمهات. تُنفخ الروح في البذور كما حدث دائماً، ويحل الربيع، وتغطي المروجَ النفلُ والبرسيم والأقحوان، وتستمر الحياة بتحدٍ.
تتحطم العديد من “بيوت العنكبوت” المبنية بكلمات واهمة وغامضة، “غريبة عن آلاف السنين”، وتتبدد سياسات الخيال في مهب الريح، وتنفذ الأرض حكمها، وتعود الحياة من جديد. يصبح التركي والكردي إخوة، ويعانقان بعضهما في قلب التاريخ والأرض من جديد، “يأتي فيلم إلى المدينة، ويصبح غابة جميلة في الكتابات، ويتغير المناخ، ويصبح كالبحر الأبيض المتوسط”. هكذا كان، وهكذا سيكون. الوطن، الذي اكتسب وجوده بعمل آلاف السنين، وبملايين الكلمات والمشاعر والمعتقدات والبشر المخزونة في الأرض، أكثر واقعية وعمقاً واتساعاً مما يُعتقد. الوطن النابض بحياة لا يستوعبها العقل، والذي يُقال إنه سُقي بدماء الشهداء، أرض الأتراك والأكراد، أعمق وأوسع من الحدود التي فرضتها خيالات القوميين الأتراك والأكراد. دماء عشرات الآلاف في خمسين عاماً، والنار المشتعلة بأنات الأمهات، والانقسامات والحدود المفروضة، كلها تبخرت أمام الذاكرة الشاسعة للأرض، مثل لهب شمعة أمام الريح. في نهاية عملية نُسجت بحكمة وصبر، عادت الدولة لتكتسب صفة الكرم مرة أخرى.
[1] بورخيس، خورخي لويس، التاريخ العالمي للانحطاط، دار نشر إيليتيشيم، 2019، ص 63.