اخبار تركيا
تناول تقرير للكاتب والسياسي التركي ياسين أقطاي، الجدل الذي أثاره خبر هدم نصب الشاعر التركي علي شير نوائي في أفغانستان، حيث ركّز على الطريقة التي صُوِّرت بها الحادثة إعلامياً، خصوصاً من قبل هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، بشكل يوحي بعداء طالبان لتركيا والأتراك.
يوضح الكاتب في تقريره بصحيفة يني شفق أن ما جرى ليس استهدافاً لرمز تركي، بل يندرج ضمن موقف طالبان الديني الرافض للتماثيل عموماً، إذ هدمت الحركة تماثيل أخرى لشخصيات أفغانية بارزة أيضاً.
كما يبرز أنّ طالبان بدأت فعلياً بترميم ضريح نوائي وتخصيص ميزانية لإبراز إرثه بما ينسجم مع الهوية الإسلامية، مؤكداً أن تضخيم الخبر إعلامياً يندرج في إطار محاولات زرع الفتنة وإضعاف الروابط بين الشعوب المسلمة.
وفيما يلي نص التقرير:
عندما نقلنا مشاهداتنا الميدانية عن أفغانستان، والتي استندت إلى حقائق ولقاءات مع جهات فاعلة ومختصة، كانت ردود الفعل التي تبعتها عبر وسائل الإعلام تستحق الدراسة بحد ذاتها.فهذه الردود لا تستند إلى أي معلومات واقعية، بل كانت مدفوعة بأيديولوجيات تستقي معلوماتها من شائعات سابقة أو أحكام مسبقة عن أفغانستان. وعندما تغيب المعلومات، يحل محلها الأيديولوجيا أو العوامل النفسية، وإن كانت الإيديولوجيا نفسها لا تنفصل عن الجانب النفسي، ولكننا سنتجاوز ذلك.
وقد أشرنا سابقًا إلى أنّ أحد ردود الفعل الشائعة هو محاولة وضع الأفغان في موقف معادٍ لتركيا، أو موجه ضد الهوية التركية. وآخر مثال على ذلك، الخبر المتعلق بهدم نصب الشاعر التركي الشهير علي شير نووي، حيث صُوِّرت طالبان وكأنها “معادية للأتراك” بشكل كامل تقريبًا. واللافت أنّ المصدر الأول للخبر كان هيئة الإذاعة البريطانية “BBC”، وهو ما يفسر نصف حقيقة ما حدث بالفعل.
ألم يكن التكتيك الأكثر فعالية للاستراتيجية البريطانية، التي أسقطت الدولة العثمانية وضيقّت الخناق عليها في الأناضول، هو زرع بذور الكراهية والعداء بين الأتراك وإخوانهم من الشعوب الأخرى؟ وهل هناك طريقة أكثر فاعلية من ذلك لتقليص دور تركيا؟ وحتى اليوم، كل محاولة للتقارب بين الأتراك والعرب أو الأكراد تواجه معارضة شديدة؛ فهل هؤلاء يخدمون القومية التركية أم الاستعمار البريطاني؟ والحقيقة المؤكدة أنّ مشاعر الصداقة والمودة والقرب التي يكنها الشعب الأفغاني وحكوماته الحالية تجاه تركيا والأتراك، لا يمكن حتى التشكيك فيها.
دعونا لا نتطرق الآن إلى مظاهر هذه الصداقة في العهد العثماني. ويكفي أن نذكر أنه في سنوات احتلال الناتو لأفغانستان، عندما كانت طالبان تلاحق جنود جميع الدول الأعضاء في الحلف، كان الجنود الأتراك يتمتعون بنوع من الحصانة. ورغم أن تركيا كانت هناك باسم الناتو، الذي تعتبره طالبان قوة احتلال، إلا أن الحركة كانت تميز الجنود الأتراك عن جميع عناصر الناتو. ولذلك، كان العديد من الجنود والمسؤولين الأمريكيين وغيرهم يضعون العلم التركي على ملابسهم ليتمكنوا من التجول بأمان خارج المنطقة الآمنة في كابول. إن هذا السلوك من طالبان تجاه تركيا ليس وليد ظرف معين، بل يستند إلى تاريخ عميق وعلاقة عاطفية متجذرة. فلماذا يتغير موقفهم الآن تجاه تركيا بعد وصولهم إلى السلطة؟
ويؤكد جميع المسؤولين الذين التقينا بهم استعدادهم لإعطاء تركيا الأولوية في العلاقات السياسية والتجارية وغيرها مقارنة بكل الدول الأخرى. وتجدر الإشارة إلى أنّه رغم حظر جميع المدارس الأجنبية في أفغانستان حاليًا، فإنّ مدارس المعارف التركية معفاة من هذا الحظر.
هل هُدم نصب الشاعر التركي الشهير علي شير نوائي؟
ومع ذلك، ماذا يعني خبر هدم نصب الشاعر التركي الشهير علي شير نڤاي؟ نعم، هذا مجرد “خبر”، صدر عن هيئة الإذاعة البريطانية BBC. أما الوقائع السابقة للخبر فهي أن طالبان لم تهدم نصب علي شير نوائي فقط، بل العديد من التماثيل الأخرى. ولا علاقة لهذا بالأتراك أو بتركيا. فموقف طالبان من التماثيل معروف، وله أساس ومبرر ديني: فالتماثيل تؤدي دائمًا إلى التقديس. وحتى لو كان تمثال لشخص محترمة فإنه يخلق نوعًا من التقديس، و يجعله محل عبادة ويخرجه من إنسانيته، ويصل به حتمًا إلى نقطة تتجاوز الخط الإسلامي في التبجيل والاحترام.
وهذا الفهم هو في جوهره ممارسة تاريخية لمفهوم التوحيد في الإسلام. أما شعورنا بالاستغراب من هذا الموقف اليوم فلعله يرجع إلى أن التماثيل أصبحت مألوفة جدًا في حياتنا، ولكن وفق الفهم الإسلامي الذي لا تزال طالبان تلتزم به فإن التماثيل محرّمة. وفي السياق نفسه، قامت طالبان بهدم تماثيل أمان الله خان، أحد أحد أقوى زعماء البشتون الذين حققوا استقلال أفغانستان من البريطانيين عام 1919، وكذلك تمثال عبد العلي مزار، زعيم الهزارة. فهل يعني هذا أن طالبان معادية للبشتون أو الهزارة؟
واللافت في الأمر أنّه قبل أن تنشر هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) الخبر، كانت إدارة طالبان قد بدأت بالفعل في ترميم وتزيين ضريح الأمير علي شير نوائي في نفس موقع التمثال. وهذا يدلّ على أنّ الهدف لم يكن الشاعر التركي الشهير، بل على العكس، أبدت إدارة طالبان الاحترام اللازم له، وشرعت في إنشاء نقش خالٍ من التماثيل يليق بالهوية الإسلامية للشاعر. وذكر رئيس بلدية مزار شريف حيث يقع النصب، أنّ التكلفة الإجمالية للنقش الجديد ستبلغ حوالي 1.5 مليون أفغاني (أي ما يعادل 25,000 دولار)، وأنّ هذا الترميم سيُجسّد ذكرى علي شير نوائي بطريقة أجمل وأكثر معنى.
أما تغطية “BBC”، فقد نجحت في خلق التأثير المقصود لدى الأتراك، حيث تم تصوير الأمر على أنه هجوم على الأتراك، فانخدع بعض المتابعين المحليين ونشروا الخبر تحت عنوان: “طالبان تُدمّر تمثال الشاعر التركي الكبير علي شير نوائي”. وهنا يبرز تساؤل مهم: هل هؤلاء مجرد سذج وقعوا في فخ بي بي سي، أم أنهم يتصرفون تمامًا كما أرادت القناة، وفق منظورها وأهدافها؟ هذا موضوع يحتاج إلى دراسة مستقلة.
لا شك أن محاولة زرع بذور الكراهية بين تركيا والشعوب التي تشاركها نفس الحضارة لا تخدم تركيا ولا الأتراك على الإطلاق. هذه النظرة لا علاقة لها بالوطنية. يجب أن نتذكر أن هذا النوع من القومية هو الذي كلف تركيا خسارة نفوذها الواسع في عهد الدولة العثمانية. وما اعتبرناه “صحاري عربية” واستغنينا عنها بذريعة القومية الغريبة، مثل “لا يمكننا التضحية بجندي واحد من جنودنا”، استولى عليه البريطانيون والفرنسيون والأمريكيون بنهم كبير كأكلة لوم البشر. ومنذ ذلك اليوم، لم يلتئم شملنا مع شعوب تلك الأراضي. ألا ينبغي أن يدفعنا إصرار نفس العقلية القومية اليوم على الوقوف في وجه كل محاولة للم شمل الأمة إلى التساؤل: من يخدم هؤلاء ومن يمثلون؟
إن الجهود الرامية لإضعاف علاقة تركيا بأفغانستان، التي أظهرت لها صداقة وقربًا لم تُظهره لأحد بعد أن نالت استقلالها بعد حرب تحرير حقيقية، ليست سوى خدمة للمهمة التي ذكرناها آنفا، لا أكثر ولا أقل.