اخبار تركيا

هل تضحي تركيا بنفسها من أجل أوروبا؟

إبراهيم قاراغول يني شفق

في هذه المرحلة الدقيقة، أصبح من الضروري التساؤل حول مستقبل العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة، والصين والولايات المتحدة، وروسيا والولايات المتحدة، مع بذل جهد مكثف لاستخلاص استنتاجات دقيقة. فقد شهدت الهياكل التقليدية والمؤسسات العالمية تآكلًا مستمرًا منذ فترة طويلة، مما أفقدها فعاليتها. إلا أن وصول دونالد ترامب إلى السلطة جعل هذا “التفكك” يتحول إلى عملية زلزالية تسارعت وتيرتها.

على وجه التحديد، يثير التدهور غير المسبوق في العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا منذ الحرب العالمية الثانية تساؤلات جدية حول مستقبل القارة الأوروبية. فهل نشهد نهاية حقبة طويلة من الهيمنة الاستعمارية التقليدية التي امتدت لخمسة قرون؟ وهل يُمكن أن يكون هذا إيذانًا بمرحلة جديدة من الفوضى في أوروبا؟

أوروبا أمام مصير مجهول: هل تعود الحروب الداخلية؟

لطالما كانت الولايات المتحدة عاملاً رئيسيًا في حماية أوروبا من التهديدات الكبرى عبر التاريخ، غير أن غيابها عن المشهد يثير مخاوف حقيقية حول مستقبل القارة، ولا سيما أوروبا القارية. فهل تُركت أوروبا لمواجهة مصيرها في ظل التصعيد المتزايد مع روسيا؟ وهل يمكن أن يؤدي هذا الواقع إلى اندلاع حرب داخلية جديدة في القارة؟

جدير بالذكر أن الحربين العالميتين الأولى والثانية بدأتا في الأساس كصراعات داخلية أوروبية، قبل أن تتسع رقعتها لتتحول إلى نزاعات عالمية. واليوم، يلوح في الأفق تساؤل جوهري: هل نحن على مشارف دورة جديدة من الاضطرابات والحروب في أوروبا؟

النهج الصادم الذي تبناه ترامب، والذي أحدث زلزالًا سياسيًا داخل الولايات المتحدة وارتداده إلى الساحة الدولية، فرض على دول العالم إعادة حساباتها بالكامل. فمن خلال ما يصفه بـ”إصلاح النظام”، أقدم ترامب على تسريح عشرات الآلاف من الموظفين داخل الولايات المتحدة، بالتوازي مع تفكيك المؤسسات الأميركية ذات النفوذ العالمي.

لم تقتصر تداعيات هذا النهج على الداخل الأميركي فحسب، بل امتدت إلى النظام العالمي برمته، حيث ساهم ترامب في تقويض المؤسسات الدولية التي لطالما نظّمت العلاقات بين الدول وفرضت معاييرها. ومع تفكك هذه الهياكل، يجد العالم نفسه أمام مرحلة غير مسبوقة من التحولات والتغيرات الجذرية، قد تضعف من قدرة الدول على ضبط إيقاع العلاقات الدولية كما كان الحال في السابق.

من سيملأ الفراغ؟ كيف سيتم تقاسم أوكرانيا؟

نحن نرى هذا الوضع على أنه “إقليميّة الولايات المتحدة”، حيث إن واشنطن تنسحب من جميع الهياكل العالمية العليا، بل يجري حتى الحديث عن إمكانية تخليها عن الناتو. ومع ذلك، لا نعلم بعد كيف سيؤثر هذا الانسحاب الأميركي على تشكيل النظام العالمي الجديد.

لا يمكننا التنبؤ بدقة بكيفية ملء هذا الفراغ، ولا بكيفية تأثير الحسابات الجيوسياسية لكلٍّ من الصين وروسيا وتركيا وألمانيا والهند على موازين القوى بوصفها “قوى إقليمية عظمى”.

في جنوب تركيا، انتهت الحرب في سوريا، ومن الممكن أن تنتهي الحرب في أوكرانيا شمالًا أيضًا. فترامب وبوتين سيجتمعان في السعودية للتفاوض حول ذلك، مع إبقاء أوروبا خارج المعادلة. وهذا يعني، عمليًّا، أن البلدين سيتقاسمان أوكرانيا، حيث ستصبح المناطق التي احتلتها روسيا رسميًّا تحت سيطرتها، فيما ستسعى الولايات المتحدة لاستيفاء مستحقاتها عبر الاستحواذ على موارد أوكرانيا.

الخلاف في مؤتمر ميونيخ للأمن: ألمانيا وفرنسا وقعتا في الفخ

فماذا عن المخاوف الأوروبية من روسيا؟.. أوروبا، التي دفعت أوكرانيا إلى خط المواجهة ضد موسكو، وتستعد لدفع بولندا ودول أوروبا الشرقية بالطريقة ذاتها، هل ستكون قادرة على تحمل تبعات مثل هذا الصراع؟ هل لديها القدرة المالية لتمويل هذه الحرب؟ وإن توصلت الولايات المتحدة وروسيا إلى اتفاق، فهل ستظل أوروبا قادرة على مواصلة هذا المسار؟

لا أعتقد ذلك. فالنقاشات الحادة بين الممثلين الأميركيين والألمان خلال مؤتمر ميونيخ للأمن تشير إلى أن الأزمة تتجاوز مسألة الحرب في أوكرانيا بكثير. وإذا سحبت الولايات المتحدة قواتها من أوروبا، فسيكون المحور الألمانيالفرنسي من بين أكبر الخاسرين سياسيًّا، وسيجد نفسه معزولًا تمامًا.

طرد فرنسا من إفريقيا وحرمانها من الموارد، بالإضافة إلى تقويض علاقة ألمانيا بروسيا وإبعادها عن مصادر الطاقة، كانا جزءًا من الفخ الذي نصبته الولايات المتحدة لهذين البلدين، وقد سقطا فيه بالفعل. والنتيجة ليست فقط أزمات اقتصادية، بل إن البلدين حوصرا جيوسياسيًّا داخل مناطقهما، مما حدّ من قدرتهما على المناورة في الساحة الدولية.

ماذا حلّ بتلك “الغطرسة الأوروبية”؟

في هذه الأثناء، ليس من قبيل الصدفة أن يعود الجدل حول “الجيش الأوروبي” إلى الواجهة، وأن تحفّز ألمانيا بشكل مفاجئ التقارب مع تركيا، وأن نسمع عبارات “ودّية” غير مسبوقة من الساسة الألمان. فهم يدركون تمامًا أن الدفاع الأوروبي من دون تركيا أمر غير ممكن. لم يعد هناك أي أثر لتلك “الغطرسة الأوروبية” التي اعتدنا عليها!

لماذا تضحي تركيا من أجل أوروبا؟

لكن، لماذا على تركيا أن تدافع عن أوروبا؟ لماذا عليها القيام بذلك؟ بينما تسعى إلى بناء مستقبلها الخاص ضمن جغرافيتها، وترسم خريطة شراكات تمتد من شرق إفريقيا إلى آسيا الوسطى، لماذا عليها أن تضحّي بهذا المشروع الكبير من أجل الدفاع عن أوروبا؟

لماذا عليها أن تعيد حبس نفسها مرة أخرى ضمن المصالح الأنانية لأوروبا؟ لماذا تخاطر بالقوة التي بنتها في مواجهة الولايات المتحدة؟ هل يمكن لتركيا أن تنسى عقودًا من نظرة أوروبا الاستعلائية تجاهها؟

تركيا تتجه نحو العولمة… وأوروبا تنكمش نحو المحلية!

في الوقت الذي تشهد فيه تركيا نموًا متسارعًا مقابل انكماش أوروبا، ومع بروز محور تركي مستقل في مقابل تقلص الدور الأوروبي إلى نطاق قاري محدود، وفي ظل عالم تزداد فيه تركيا حضورًا على الساحة الدولية بينما تنكفئ أوروبا على ذاتها، فإن الذاكرة المؤسسية للدولة التركية، وما تحمله من عقلية إمبراطورية، لن تنساق وراء المتغيرات اليومية، ولن تقع في هذا الخطأ. ففي مرحلة يُعاد فيها تشكيل التاريخ بعد قرن من الزمان، لن ترضخ تركيا لليأس الأوروبي.

كان ينبغي للنخب السياسية الأوروبية أن تدرك أن هذا اليوم قادم. وكان على الساسة الألمان أن يستوعبوا أن التاريخ يعيد نفسه مجددًا. لكن غرورهم أعمى بصيرتهم، فلم يتمكنوا من فهم خريطة القوة الجديدة التي تتشكل في العالم.

عندما يتعلق الأمر بالعالم الإسلامي… يصبح التطهير العرقي مقبولًا؟

ومع ذلك، لن ننظر إلى الانقسام بين الولايات المتحدة وأوروبا على أنه مطلق. فعندما يتعلق الأمر بالعالم الإسلامي، نعلم جيدًا كيف يمكنهما إيجاد أرضية مشتركة لتحقيق أهداف معينة. فقد شهدنا ذلك مرارًا خلال الألف عام الماضية في السياق الأوروبي، وفي المئة عام الماضية على وجه الخصوص عندما يتعلق الأمر بالشراكة الأميركيةالأوروبية.

في الوقت الذي ينتهج فيه ترامب استراتيجية لإنهاء الحرب في أوكرانيا، والتقارب مع روسيا، وتخفيف التوتر مع الصين، فإن الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي يُمارس في فلسطين ضد العالم الإسلامي يذكّرنا مرة أخرى بهذه الحقيقة. هذه الوقائع توجه لنا تحذيرًا واضحًا وصريحًا!

لنبحث عن طريقنا بعيدًا عن “خرائط الآخرين”…

يجب على تركيا والعالم الإسلامي، أو ما نُسميه “جغرافيتنا”، التركيز على سعيها الخاص، وعدم إضاعة الفرصة التاريخية التي ظهرت لأول مرة بعد القرن العشرين.

إن البحث عن مسار في ظل التغيرات الأميركية الجديدة، والعلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، وحالة العجز التي تبدو عليها أوروبا، قد يؤدي إلى تضييع فرصة القرن الحادي والعشرين.

يجب أن تتخلى هذه الجغرافيا عن فكرة أن تكون “لاجئة” لدى الآخرين، أو أن تصبح “جبهة” لصراعاتهم، أو أن تحاول العثور على موطئ قدم داخل خرائط القوى التي يرسمها غيرها.

لطالما شددت على هذه النقطة: نحن نشكل المنطقة الوسطى من العالم، الممتدة من المحيط الأطلسي إلى سواحل المحيط الهادئ، إن لم نتمكن هذه المرة أيضًا من تأسيس مجال قوتنا الخاص، فإن منطقتنا لن يكون لها مستقبل. سنجد أنفسنا عالقين في دوامة الحروب والصراعات الداخلية، والفقر، والخلافات الهوياتية، والهيمنة السياسية، والنهب الاقتصادي.

موقف تركيا اليوم هو امتداد لمطالبها التاريخية

نرى أن تركيا تراقب بصمت تطورات “عالم ترامب”، والتقارب الأميركيالروسي، والعلاقات الأميركيةالروسية مع أوروبا، بينما تعمل في الوقت نفسه على تأمين خارطتها الخاصة، وتسعى إلى توسيع شبكة تحالفاتها. كما نلاحظ حرص تركيا الشديد في الحفاظ على علاقاتها مع كل من الولايات المتحدة وروسيا، وتعزيزها، أو على الأقل عدم الإضرار بها.

إن انتهاء الحرب في سوريا (مع أن وحدة أراضيها لم تكتمل بعد) ووقف الحرب في أوكرانيا/البحر الأسود سيمنح تركيا قدرًا من الراحة. ومع ذلك، يجب أن ندرك أن أي مساعٍ لتحقيق السلام تستثني تركيا لن تكون طويلة الأمد.

بصفتها قوة إقليمية عظمى، يجب أن نضع في اعتبارنا أن إعادة تشكيل العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا ستفرز “نتائج جديدة” على خارطة القوة التركية، وستؤثر على العديد من المناطق الممتدة من الشرق الأوسط إلى آسيا الوسطى. وفي هذه المرحلة، من الواضح أن تركيا ستواصل التحرك وفقًا لطموحاتها التاريخية.

الحسابات السياسية الداخلية في تركيا ستنهار.. بعض القوى ستفقد الدعم

لم تتضح بعد انعكاسات “تحركات ترامب” داخل الولايات المتحدة أو في العالم. في الوقت الحالي، ينصب التركيز على كيفية وقف كارثة “التطهير العرقي في غزة”، وهو ما نتابعه من خلال حالة الاستنفار في مصر والأردن والسعودية. ومع ذلك، فإن طبيعة العلاقات الجديدة بين القوى العظمى قد تؤدي إلى زلازل سياسية كبرى في المنطقة.

هناك جانب لم يُسلَّط عليه الضوء بشكل كافٍ، وهو أن هذا التحول الجديد قد يؤثر بعمق على التوجهات السياسية الداخلية في تركيا. فمن الممكن أن تنهار البُنى السياسية، والكوادر المدعومة من الولايات المتحدة وأوروبا، وتتعطل المخططات السياسية المتعلقة بالانتخابات المقبلة.

قد تجد بعض القوى نفسها بلا سند، وقد يصبح الطريق مسدودًا أمام الأجندات والهياكل التي رُوّج لها على أنها “مدنية”، خصوصًا في ظل تراجع الاهتمام بقضايا الديمقراطية وحرية التعبير في هذه المرحلة.

تفكيك “الدوائر الوصائية” داخل تركيا… تغييرات واسعة في المشهد الدولي

تركيا والعالم يدخلان مرحلة جديدة من التفاوضات. لن تسمح أي دولة بوجود آليات “الوصاية” داخلها في عصر “الدول المهيمنة”. وبينما تشهد الولايات المتحدة حملة تطهير واسعة ضد الأجهزة الوصائية فيها، قد تشهد تركيا والعديد من الدول الأخرى عمليات مشابهة.

بل إن الأمر لم يعد يقتصر على تفكيك الآليات الوصائية الداخلية، بل إن “الوصاية العالمية العليا” نفسها بدأت في الانهيار. على سبيل المثال، ما حدث في مؤتمر ميونيخ للأمن، الذي كان أحد أدوات السيطرة على أوروبا خلال الحرب الباردة، وانتهى بخلافات حادة بين الولايات المتحدة وألمانيا، مجرد نموذج لما هو قادم. وسنشهد في المستقبل القريب أمثلة أكثر درامية على هذا التحول.

“توصياد” ارتكبت خطأً قاتلًا!

في هذه المرحلة تحديدًا، تُفتح الأبواب أمام “القوى الإقليمية العظمى”. لم تعد أي مفاوضات تُجرى وفق المعايير القديمة.

من الواضح أننا مقبلون على طاولات تفاوض أكثر صرامة، وواقعية، وقدرة على تحقيق النتائج. وفي خضم هذه التحولات، ارتكبت “توصياد” أكبر خطأ في تاريخها، حيث تصرفت كأحد أجهزة الوصاية الداخلية في تركيا، وحاولت التدخل وفقًا لعادتها القديمة في “توجيه الدولة”. غير أن زمن هذه البُنى الوصائية قد ولى وانتهى.

كان على “توصياد” بدلًا من ذلك أن تشعر بذعر حقيقي. وربما، مثل أوروبا، وجدت صعوبة في استشراف المستقبل.

تركيا تطلب… وأوروبا تُجيب بـ”نعم”

يمكننا تسجيل الملاحظات التالية بشأن أولى نتائج هذه المرحلة الجديدة:

1 تقارب ألمانيا والاتحاد الأوروبي مع تركيا قد يؤدي إلى تغيير السياسات الأوروبية التقليدية بشأن تنظيم بي كي كي الإرهابي وقضايا الإرهاب.

2 فيما يتعلق بالدفاع الأوروبي، قد يكون هناك توجه كبير من الاتحاد الأوروبي نحو تركيا، مما قد يؤدي إلى نتائج سياسية مهمة، بالإضافة إلى تحولات كبيرة في مجالات الأمن والاقتصاد.

3 بعد أن توثّق روسيا انتصارها في أوكرانيا، قد تُعيد صياغة علاقتها مع تركيا بطرق أقل مرونة، وهو ما قد يكون له تأثيرات كبيرة على البحر الأسود والبلقان والقوقاز وآسيا الوسطى.

4 قد تشهد العلاقات التركيةالأميركية توترًا في الشرق الأوسط، نظرًا لأن النهج الأميركي القائم على المحور الإسرائيلي يضر بالمصالح التركية في المنطقة.

الصمت الأميركي تجاه تركيا في استراتيجية ترامب…

5 مهما حاول ترامب، فإن قوة الولايات المتحدة أقل بكثير مما تتخيله واشنطن. العالم يدرك ذلك، والصين تدرك ذلك، وتركيا أيضا. الجميع يترقب بصبر ليرى إلى أين ستمتد تداعيات هذه التحولات. وحتى الآن، لم تظهر أي ردود فعل، لكنها حتمًا ستظهر في الوقت المناسب.

6 رغم مواقف ترامب التصعيدية تجاه روسيا وأوروبا والصين، فإن صمته تجاه تركيا يثير الانتباه. هذا الصمت يحمل في طياته الكثير من الاحتمالات، وقد تتضح الأمور بشكل كامل بعد ذلك.

عن الكاتب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *