اخبار تركيا

منذ تأسيسه عام 2016، نجح وقف “معارف” التركي في تحويل التعليم إلى مشروع عالمي، حيث يضم أكثر من 533 مدرسة وجامعتين دوليتين في 64 دولة، مستقطبا أكثر من 70 ألف طالب وطالبة من خلفيات ثقافية متنوعة، ليصبح نموذجا يربط بين المعرفة والقيم ويعزز التعاون الدولي في المجال التعليمي.

وفي مقال له على موقع “الجزيرة نت”، قالمحمود مصطفى أوزديل،الكاتب المتخصص بالتعليم، وورئيس وقف معارف التركي، إنه “في عالم تتسارع فيه وتيرة الأحداث، وتزداد هشاشتنا أمام التحولات المتلاحقة، يبقى التعليم أحد أكثر الأدوات قدرة على التأثير في المصير الإنساني وتوجيهه”.

وأضاف أن المعرفة حين تُمنح للإنسان بالطريقة الصحيحة، لا تقتصر على تزويده بالمعلومات، بل توسع أفقه، وتنمي لديه التفكير الحر، وتعيد وصل العلم بالأخلاق، والمادة بالروح، والمنطق بتجربة الحياة.

وفيما يلي تتمة المقال:

وعندما يغيب هذا النوع من التعليم، أو يتحول إلى عملية تقنية جافة، ينشأ جيل يمتلك الأدوات، لكنه يفتقر إلى الوعي اللازم لتوظيفها في الاتجاه الصحيح، ويملك المهارات دون أن يعرف لماذا يستخدمها أو إلى أين يتجه بها.

ولهذا لا يمكن النظر إلى التعليم بوصفه وسيلة لإيجاد الوظائف فحسب. فالتعليم أعمق من ذلك بكثير؛ إنه مشروع لتشكيل الإنسان وإعادة بناء وعيه، وجسر يصل بين الفيزياء والميتافيزياء، وبين العقل والخيال، وبين البحث العلمي والأسئلة الوجودية التي لا تتوقف.

تنطلق رؤية وقف “معارف” من هذا الفهم الواسع. فالإنسان لا يكتمل إذا تعلم العلوم بمعزل عن القيم، ولا يصبح قادرا على الفعل إذا امتلك الأخلاق دون أدوات التحليل. وقد رأينا، جميعا، كيف أن استخدام التقدم العلمي من دون قيم تضبطه وتوجهه، حول العلم في مواضع كثيرة من العالم من أداة للتقدم والازدهار إلى وسيلة للقتل والدمار.

الإنسان لا يكون مكتملا إذا تعلم العلوم بمعزل عن القيم

ومن هنا يمكن القول إن أحد أسس العملية التعليمية السليمة هو تبني نموذج يجمع بين هذين البعدين، بحيث ترى المعرفة في وحدتها لا في تجزئتها. فالمدرسة ليست مجرد مواد منفصلة، بل فضاء يساعد الطالب على رؤية العالم بلغاته ورؤاه المتعددة، وعلى إدراك أن كل لغة يتعلمها هي نافذة جديدة يطل منها على الكون.

وعند هذه النقطة يصبح التعليم مشروعا معرفيا وثقافيا في آن واحد. فالمدرسة ليست مكانا لحفظ المناهج فحسب، بل مساحة يكتشف فيها الطالب ذاته وصوته ودوره. إن الطالب بحاجة إلى من يعلمه كيف يحلم، وكيف يرى مكانه في المستقبل، وكيف يشعر بأن ما يتعلمه ليس عبئا، بل فرصة. فالمدرسة التي لا تمنح طالبها هذا الشعور تتحول إلى جدار يحجبه عن إمكاناته، بينما تمنحه المدرسة التي تعيد تنظيم علاقة الإنسان بالعالم القدرة على الفعل والتخيل معا.

وتبرز هنا أهمية التنوع الثقافي واللغوي. فالفصول التي تضم طلابا من خلفيات متعددة لا تقدم معرفة فقط، بل ترسم صورة مصغرة للعالم. يتعلم الطالب فيها أن الاختلاف ليس تهديدا بل ثراء، وأن الحوار لا ينتقص من الهوية بل يوسعها. فالمعرفة التي لا تعترف بالآخر لا تنتج سلاما، والتعليم الذي يتجاهل الاختلاف لا يصنع عدلا. إن المدرسة التي تفتح أبوابها للتنوع تتحول إلى نافذة واسعة على الكون، لا مرآة ضيقة تعكس صورة واحدة.

المعرفة التي لا تعترف بالآخر لا تصنع السلام

ومن هذا المنطلق، نرى أن التعليم «خير عالمي مشترك». فالمجتمعات التي تهمل تعليم أطفالها لا تخلق مشكلة محلية فحسب، بل تنتج أزمات أوسع يتأثر بها الجميع. فالفقر التعليمي يولد فقرا اقتصاديا، ويضعف البنية الاجتماعية، ويخلق بيئات خصبة للفوضى والتطرف. ولذلك يصبح التعليم مسؤولية عالمية تتشاركها الدول والمؤسسات، لا قطاعا معزولا عن القيم الكبرى. وهو في جوهره أداة لتحسين الفرد، ومن خلاله المجتمعات، ومن ثم العالم بأسره.

نحن نتحدث هنا عن «التحسين»، لكن كل عملية تحسين حقيقية تبدأ أولا بتشخيص دقيق؛ إذ تتطلب مراقبة الواقع بوضوح، والقدرة على تسمية المشكلات كما هي. ومن هذا المنطلق، لا ينبغي أن نسعى إلى إصلاح يفرغ الاختلافات من معناها أو يذيب التنوع في قالب واحد، لأن التجارب التاريخية أثبتت أن فرض تصور أحادي للخير، مهما بدا نبيلا، ينتهي غالبا إلى صورة من صور الظلم.

إننا نؤمن بأن التربية والإصلاح لا يقومان على الإملاء، ولا على استنساخ نموذج واحد، بل على احترام اللغات، والمشاعر، والهويات التي تشكل الإنسان. وعلينا أن نظهر للعالم أن تحسين الواقع ممكن دون أن يفقد أحد صوته أو خصوصيته؛ تحسين يعزز المشترك، ويصون التنوع، ويجعل من التعليم أداة لتجديد العالم لا لتوحيده قسرا.

وفي هذا السياق، يكتسب التعاون العربيالتركي في مجال التعليم أهمية خاصة، ليس لكونه تقاربا بين ثقافتين فحسب، بل لأنه محاولة لترسيخ مشروع حضاري مشترك يقوم على «وحدتنا، وعملنا معا، وتحسين أوضاعنا جميعا». مشروع يرى في التعليم الطريق نحو الاستقرار والازدهار، ويربط فضاء حضاريا كاملا بمستقبل معرفي جديد.

هنا تتجلى مكانة وقف “معارف” التركي بوصفه الذراع التعليمية الدولية لتركيا. فمنذ تأسيسه عام 2016، تحول الوقف إلى شبكة تعليمية عالمية تمتد اليوم إلى 64 دولة، ويضم في بنيته أكثر من 533 مدرسة وجامعتين دوليتين، إضافة إلى 12 مركزا للبحوث والدراسات.

وعلى مقاعده يجلس أكثر من 70 ألف طالب وطالبة من خلفيات ثقافية ولغوية متنوعة، ليشكلوا صورة مصغرة للعالم داخل الفصول. هذا الانتشار الواسع يعكس رؤية تؤمن بأن التعليم رسالة تتجاوز الحدود.

وفي هذا الإطار، ينظم الوقف قمة إسطنبول للتعليم بوصفها منصة دولية لمناقشة القضايا الجوهرية الة بمستقبل التعليم. وهي قمة تهدف إلى أن تكون مساحة للفكر والحوار وتبادل الخبرات، وأن تضع التعليم في قلب النقاش الحضاري.

فالوقف يدرك أن التمدد الجغرافي لشبكته التعليمية لا يكتمل دون حوار دولي يواكب هذا الحضور، ويعيد طرح الأسئلة الكبرى حول المناهج، وتمكين الطالب، ودور المدرسة في المجتمع، والتعاون التربوي العابر للحدود.

وتأتي قمة إسطنبول للتعليم، المقرر عقدها يومي 4 و5 ديسمبر/كانون الأول 2025، لتعميق هذا النقاش. ففي جلستها الأولى سنحاول «رؤية ما هو معلوم في مرآة التعليم»، بينما تتناول الجلسة الثانية «ما وراء المناهج: فن الإنسانية». أما الجلسة الثالثة فتبحث في «العبور من المدرسة إلى المجتمع»، وتختتم القمة بالجلسة الرابعة تحت عنوان «نداء إلى الغد: من الفكرة إلى الفعل».

وفي ختام القمة، نأمل أن تستعيد إسطنبول مكانتها التاريخية مركزا للعلم والتعليم، وأن تكون القمة ترجمة حقيقية لشعارنا: جعل العالم مكانا أفضل بالتعليم.

فهي ليست لقاء تنظيميا عابرا، بل خطوة لتحويل الفلسفة إلى ممارسة، والرؤية إلى التزام يومي. فالتعليم إذا أدير بإيمان ووعي قادر على أن يعيد للإنسانية توازنها، ويمنحها مستقبلا أكثر رحابة وعدلا ومعنى.

شاركها.