أرسين جليك يني شفق
نحن في اليوم الخامس من التدريبات الخاصة بالأسطول، وقد انتهت المرحلة الأكثر صعوبة وكثافة. وتكمن صعوبتها في أننا خضنا تدريبات عملية حول ما يمكن أن نواجهه عند انطلاق الأسطول في البحر. وفي كل حوار أو مقابلة تقريبا، يُطرح عليّ السؤال: “ماذا ستفعلون إذا تدخلت إسرائيل؟” وقد أوضحت سابقا أن ردّنا، كناشطين سلميين، سيكون عبر المقاومة السلمية. وفي المرحلة الأخيرة من التدريبات، قمنا بمحاكاة هذه المقاومة. وخضعنا لاختبارات بدنية ونفسية. كانت تجربة مفيدة، وأشعر الآن أنني أكثر استعدادًا، وكذلك زملائي. لكن كيف ستكون الحياة على متن السفينة؟ وما الذي ينتظرنا؟ استمعنا مجددًا إلى تجارب سابقة، وشاهدنا تسجيلات مصوّرة، وتعلّمنا كيف نتعاون وندعم بعضنا في مختلف الظروف. قوتنا الخفية تكمن في التضامن والروح المعنوية، وهو ما يسميه الغربيون “القوة العاطفية”.
لم يُكشف لنا بعد عن تفاصيل السفن التي سنكون على متنها أو هويات من سيرافقوننا في الرحلة، غير أننا قُسِّمنا إلى مجموعات لتشكيل فِرق أقرب ما تكون إلى طاقم السفينة. وقد ذكر كل منا ما يمكن أن يقدّمه من مهارات تفيد الآخرين. من جانبي، أوضحت أنني إلى جاني مقالاتي، أستطيع المساهمة في توثيق القصص كتابةً، وتسجيل وقائع الرحلة، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي بفاعلية لنقل ما يجري. وقد لقي ذلك ترحيبًا، لكن العرض الذي لفت الانتباه أكثر هو عرض يشار يافوز حيث قال: “سأغني لكم الأغاني الشعبية وألقي القصائد”. فما كان من البعض إلا أن انهالوا عليه بطلبات أن يكونوا معه على السفينة ذاتها. لقد اختُتمت تدريباتنا في إيطاليا بدروس من الانسجام والتلاحم، وبشعور حقيقي بأننا ركاب سفينة واحدة. أصبحنا الآن على أتم الاستعداد، ونعد الساعات حتى نبحر.
احتجاجات غاضبة ضد إسرائيل على جبل إتنا
منذ وصول المتطوعين على متن أسطول الصمود إلى إيطاليا، تشهد مدينتا كاتانيا وسيراكيوز مسيرات داعمة لغزة. وكانت إحدى أضخم هذه المسيرات قد نُظمت في كاتانيا مساء أول أمس. وكنا نحن الأتراك جزءًا من المسيرة الكبيرة التي انطلقت من نقطة التجمع وتوجهت نحو أوسع ساحات المدينة. ولم أدرك حجم المشاركة الهائل إلا بعد أن شاهدت مقاطع الفيديو التي تم تداولها لاحقًا. فقد كانت الحشود تتدفق على الساحات الواسعة أمام قلعة أورسينو. وعندما وصلنا إلى الساحة، وجدنا منصة كبيرة أُقيمت بالفعل، حيث كان المتحدثون يلقون كلماتهم أمام الحشد. تقدمت نحو المنصة لأتأمل في سلوكيات المتظاهرين الذين كانوا يرددون الهتافات بحماس جماعي. كان واضحًا أن هذه الفعالية لا تقتصر على التعبير عن التضامن، بل تتجاوز ذلك لتكون بمثابة وداع رمزي لأسطول الصمود. وقد كُتبت على المنصة عبارة بارزة بالإنجليزية: “Gaza We Are Coming” (نحن قادمون يا غزة).
كان العديد من المشاركين يرتدون الكوفية أو يحملون رموزًا فلسطينية. كما برز البطيخ هنا أيضًا كأحد الرموز، ولكن الكوفية كانت تحظى بتقدير خاص. وقد أدركت أن سكان كاتانيا، المعروفة بكونها مدينة بحارة، قد ربطوا رمزيًا بين نقوش الكوفية الفلسطينية وشباك الصيد التي يُلقيها الصيادون الفلسطينيون في البحر ليتخذوا منها راية مشتركة للتضامن.
لقد لمست بعمقٍ التحولَ في الأجواء الأوروبية والغضب العارم الذي يتصاعد من شواطئ البحر الأبيض المتوسط باتجاه إسرائيل. لم يتوان المشاركون للحظة عن وصف إسرائيل بـ ” الصهيونية” أو الحديث عن المجازر وجرائم القتل، وعن وصف نتنياهو بـ “السفاح”. وكذلك كان المتحدثون. كان هناك من يبكي على المنصة، ومن يزأر غضبًا مثل بركان إتنا الذي كنا نقف على سفحه.
والجدير بالذكر أن المسيرة التي بدأت عند الساعة السابعة مساءً، استغرقت ساعة للوصول إلى الساحة، فيما امتدت الكلمات والخطابات على مدى أربع ساعات كاملة. وعندما غادرت المكان في الساعة الثانية عشرة والنصف، كانت الفعالية الرسمية قد انتهت، لكن مجموعات واسعة من الشباب ظلّت متجمعة، يلتفون بالكوفية الفلسطينية، ويواصلون النقاش والحوار حتى ساعة متأخرة من الليل.
وقد صادف ذلك ذكرى مولد نبينا الكريم ﷺ، فبدأت أنا وصديقي في الأسطول، المستشار النفسي عبد الصمد توران، بتوزيع بعض الحلويات التي جلبناها معنا على المتظاهرين. كان عبد الصمد يشرح للمشاركين أننا في طريقنا إلى غزة، ويشير إلى أن هذا اليوم له أهمية خاصة لدى المسلمين، وأن تقديمنا للحلوى يأتي في سياق الاحتفاء بهذه المناسبة. ولم يرفض أحد الحلويات أو الانضمام إلينا؛ بل استمعوا بعناية، وأبدوا دهشتهم وسرورهم، وكان غالبية المشاركين يعلنون عن نضالهم من أجل غزة.
وعندما سألت شابة إيطالية اسمها إليزابيث عن سبب وجودها هنا، قالت: “من الرائع أن نتمكن من القيام بما عجزت عنه الدول والحكومات”. وعندما علمت شابة إيطالية أخرى أننا سنكون على متن السفن المتجهة إلى غزة، بدأت تصرخ بحماس، مشيرة إلينا والتقطت صورة تذكارية معنا. وسألنا زوجان آخران عما إذا كنا بحاجة إلى أي شيء، فيما أبدى آخرون رغبتهم في شراء القميص الذي يرتديه عبد الصمد والذي كتب عليه “أسطول الصمود”. لقد كان هناك جمهور صادق، ودافئ، وحماسي، يعبر عن موقفه ودعمه بوضوح في كاتانيا.
يمكننا القول الآن إن اتجاه الرياح في أوروبا قد تغير بالفعل، حاملةً معها غيومًا من الغضب تجاه إسرائيل. وعندما يبحر الأسطول نحو غزة، ستتردد أصداء الدعم القادم من الجهة الأخرى للبحر المتوسط في جميع أنحاء العالم. يمكنني سماع هذه الأصداء بالفعل.
“لا أستطيع أن أعيش متجاهلة ألم غزة”
كان الحشد المتحمس الذي رأيته في كاتانيا يجمع المئات من الأشخاص من مختلف الأعمار والخلفيات. ومن بين هؤلاء، كانت مها، الشابة التي جلست بهدوء خلال التدريبات، لتنسج على قماش أبيض روح المقاومة هذه. ويضم الأسطول المقرر أن ينطلق من إيطاليا نشطاء من مختلف الجنسيات، والمعتقدات، وأنماط الحياة، ومن جميع الفئات العمرية. هناك من هم في الستينيات، وفي منتصف العمر، ولكن الشباب هم الغالبية. ويبرز الشباب الأوروبيون في أوائل العشرينات من العمر بحضورهم اللافت ويحظوون بتقدير خاص.
سأروي لكم قصة إحداهن، كانت تجلس في الخلف أثناء التدريبات، وتحمل قطعة قماش بيضاء، وتطرز عليها أشكالًا بالإبرة. وتُعرف النساء التركيات بمهارتهن في هذا الأمر، أتذكر ذلك من والدتي. وعندما اقتربت، رأيت أنها تطرز شعار أسطول الصمود. وانتابني فضولٌ لمعرفة قصتها. اسمها مها، وهي قادمة من فرنسا، وتبلغ من العمر 25 عامًا. لقد أنهت لتوها دراستها في مجال المساعدات الإنسانية. وعندما سألتها عن سبب مجيئها، أجابتني بإجابة مؤثرة: “أنا من عائلة ثرية. لا أريد أن أعيش وأنا أمتلك كل هذه الإمكانيات وأتجاهل آلام الآخرين. فهذا ليس أمرا عاديا. أريد أن أستخدم ما أملك من إمكانيات لأُحدث تغييرًا. إن أحد مبادئ العمل الإنساني هو حماية كرامة وحق جميع البشر في الحياة دون تمييز، وهذا يشمل الفلسطينيين أيضًا. أحيانًا ننسى ذلك. لهذا السبب أنا ذاهبة إلى هناك، لأستخدم إمكانياتي ومهاراتي في خدمة هذا الهدف. هذا كل ما أريد فعله. ولهذا انضممت إلى أسطول الصمود العالمي”.
هذا هو الوضع السائد في إيطاليا، ورغبة الناس في الذهاب إلى غزة مدفوعة فقط بموقف إنساني وشعور بالمسؤولية. سأعرض في الجزء الأخير من مقالاتي حول “الأسطول” ملاحظاتي الجديدة بشأن التحول الجذري في أوروبا. أما الآن فلنكمل مع مها، فقد أخبرتها أنني مهتم بمعرفة سبب قيامها بالتطريز. فبدأت تروي ذلك بسرور:
“إنها واحدة من هواياتي الجديدة، بدأت بها مؤخرًا. هذا هو التطريز الذي أعمل عليه حاليًا. أردت أن يحمل رموزًا من غزة وفلسطين ومن أسطول الصمود العالمي. لا أعرف إن كانت هناك مشكلة في أخذه معي، لكن يجب أن أنهيه. لقد طرزتُ سابقًا علم فلسطين، والآن أطرز شعار أسطول الصمود العالمي. أريد أن أحمل رمزي الخاص معي، ليعرف الناس من أكون. أعتقد أن حمل رموز القضية التي نعمل من أجلها أمر مهم. نحن جميعًا نتشارك الإنسانية، وأعتقد أن هذا أجمل ما في الأمر.”
إن المظاهرات الداعمة لغزة في كاتانيا، ومشاعر الشابة الفرنسية مها، تُظهر بأوضح صورة أن الحراك والنشاط الجديد يقف في وجه إسرائيل بدافع المسؤولية الأخلاقية والضمير الإنساني. أما إسرائيل والصهاينة، فهم عاجزون عن فهم هذا التحول الاجتماعي الجديد لأنهم يظنون واهمين أنهم لن يُهزموا أبدًا.
هذه ملاحظاتي لليوم.. أود تذكيركم بضرورة دعم الأسطول برًا، والمشاركة في المسيرات التي ستُنظم في المدن عندما نبدأ رحلتنا.