تخوض الأمهات العاملات صراعاً يومياً بين متطلبات العمل والتزامات الأسرة، وسط ضغوط تتوزع بين ساعات الدوام الطويلة، ومتطلبات التربية والرعاية. ويتضاعف الصراع عندما تكون الموظفة أماً أو حاضنة لأحد أصحاب الهمم.

وتقترح مختصات وأمهات عاملات حلولاً يمكن أن تسهم في تحسين جودة حياة المرأة العاملة، أبرزها إسهام الزوج في تعزيز التوازن من خلال تهيئة البيئة الأسرية الداعمة، وتعزيز مفهوم الشراكة الحقيقية بين أفراد الأسرة، إضافة إلى إسهام بيئة العمل في مراعاة ظروف الأمهات العاملات.

وتفصيلاً، قالت الأم مريم المهري، وهي امرأة عاملة وأم لطفل من ذوي التوحد، إن التحديات اليومية التي تواجهها تتجاوز في صعوبتها ما تواجهه الأمهات الأخريات، فطفلها يعاني اضطراباً في النوم يستمر أحياناً ليومين أو أكثر دون راحة، ما يُصعّب عليها الحصول على قسط كافٍ من النوم، أو بدء يومها بوضع نفسي وجسدي مريح.

وأكدت أن هذه الحالة تؤثر في التزامها بساعات العمل أو نظام المناوبات، نظراً لحاجة الطفل المستمرة للمراقبة، ما يضطرها لتكرار طلب الإجازات أو الاستئذان من العمل.

وتضيف أن رعاية طفل من أصحاب الهمم تعني أيضاً تقليص العلاقات الاجتماعية، وتفادي المشاركة في المناسبات، لصعوبة اصطحابه إلى مكان عام، خصوصاً الأماكن التي تتسم بالضوضاء أو الازدحام، ما يضيف عبئاً نفسياً واجتماعياً آخر على الأم.

أما عن الوصول إلى مراكز الرعاية، فتشير المهري إلى وجود صعوبة حقيقية في التنسيق بين مواعيد جلسات العلاج وساعات الدراسة والعمل «فغالباً ما تتزامن الجلسات مع الفترات الصباحية، ما يضطرني إلى تقديم استئذانات متكررة، في ظل نظام لا يسمح إلا بثلاث ساعات يومياً، ويجعل الحصول على استئذان منتظم أمراً معقداً، في ظل احتياجات الموظفين الآخرين».

وأكدت أن هذه الظروف لها أثر مباشر على مسارها المهني، لأن تكرار الغياب والتأخير في إنجاز المهام يؤثر سلباً في فرص الترقية واستلام المناصب.

وترى أن البيئة المؤسسية لاتزال تفتقر إلى المرونة الكافية لدعم الأمهات العاملات من هذه الفئة.

وأشارت إلى ضرورة وجود تشريع يضمن حقوق الأمهات اللاتي يرعين أطفالاً من أصحاب الهمم، ويتضمن مرونة في ساعات العمل، وإمكان العمل عن بُعد، وإعادة النظر في آليات تقييم الأداء السنوي، إلى جانب تقليل سنوات الخدمة كمسار للتقاعد المبكر، بحسب شدة الإعاقة، بما يراعي ظروف الرعاية المستمرة التي تتطلبها بعض الحالات.

وأكدت مريم المهري «أم راشد» أنها تمكنت من دعم ابنها أكاديمياً، ما أسهم في وصوله إلى المركز الرابع على مستوى الصف الأول في مدرسته خلال العام الدراسي 20242025، إضافة إلى تميزه بشكل خاص في مادة الرياضيات ونشاط الرسم.

الحضور الأسري

واستعرضت الأم العاملة، نجلاء الجناحي، تجربتها في التوفيق بين العمل وتربية الأبناء، مشيرة إلى أنها واجهت تحديات في بداياتها المهنية، لكنها تمكنت من تجاوزها، بفضل تنظيم الوقت والتوازن بين المسؤوليات.

وأوضحت أن مسيرتها التي امتدت لأكثر من 32 عاماً، أتاحت لها تربية أبنائها على القيم التي تؤمن بها، مستفيدة من مرونة بيئة العمل آنذاك، حيث كانت ساعات الدوام في التسعينات وبداية الألفية تنتهي مبكراً، ما منح الأمهات وقتاً كافياً للرعاية والمتابعة اليومية.

وأضافت أن التغيرات التي طرأت على بيئة العمل في السنوات الأخيرة، بما فيها امتداد ساعات الدوام، جعلت التحديات أكبر على الأمهات، خصوصاً مع تقاطع وقت الدوام مع جداول المدارس.

وقالت إنها كانت تقضي وقتاً ممتعاً مع أطفالها، حيث كانت تشاركهم اللعب، والأنشطة اليومية، وتحرص على مرافقتهم في تفاصيلهم الصغيرة والكبيرة.

وترى الجناحي أن المسؤوليات المهنية الطويلة تفرض إيقاعاً مختلفاً، لأن الغياب المتكرر عن المنزل يشعر الموظف بأنه «زائر في بيته».

تحديات الأسرة

وأكدت الأم العاملة، أميرة مهدي، أن الصراع النفسي اليومي الذي تعيشه بين واجبات العمل ومتطلبات الأسرة، يزداد حين يتطلب عملها التنقل بين إمارات مختلفة، ما يفرض عليها قضاء أكثر من 12 ساعة خارج المنزل.

وقالت إن «الغياب الطويل يخلق شعوراً مستمراً بالتقصير تجاه الأبناء، ويجعل فكرة الاستقالة تراودني كثيراً».

وأشارت إلى أن الإرهاق الجسدي والنفسي الناتج عن العمل يؤثر في الحالة المزاجية، ما ينعكس على التعامل مع الأبناء، موضحة أن الإحساس بالتقصير يتضاعف حين ترى أبناءها يبدأون يومهم من دونها، ويتناولون الإفطار بمساعدة عاملة، ما يولد شعوراً داخلياً بأن هناك من يعتني بأطفالها أكثر منها.

وترى مهدي أن العمل يمنحها شعوراً بالقيمة والعطاء، وتقول إن إحساسها بأنها تسهم في تطوير مجتمعها يخلق نوعاً من التوازن النفسي والرضا الداخلي.

مسار الطموح

وتحدثت الأم العاملة، مكية الرئيس، عن التغيرات التي طرأت على طموحاتها الشخصية بعد الأمومة، مشيرة إلى أنها كانت تخطط لاستكمال دراستها الجامعية، لكن ضغوط العمل حالت دون ذلك.

وقالت: «تغيّرت طموحاتي بعد أن أصبحت أماً، حيث كنت أطمح إلى استكمال دراستي الجامعية، لكن ساعات العمل الطويلة لم تكن داعمة لذلك، واضطررت إلى تأجيل حلمي لأجل عائلتي».

وعن محاولاتها تحقيق التوازن بين الطموح الشخصي ومتطلبات الحياة الأسرية، أوضحت أنها تبذل جهداً كبيراً لتحقيقه، إلا أن مسؤوليات الأسرة ورعاية الأبناء تتطلب الكثير من الوقت والجهد، ما يدفعها في كثير من الأحيان إلى تقديم أولويات أسرتها على ذاتها.

كما أعربت عن أمنيتها أن يُدرك أبناؤها قيمة الجهد الذي تبذله كأم عاملة، وأن يقدّروا تضحياتها لتوفير حياة مستقرة وكريمة لهم، مع مراعاة ظروفها في حال تأخرت عن تلبية بعض احتياجاتهم نتيجة لضغوط العمل.

تحديات مستمرة

وأكدت عضو المجلس الوطني الاتحادي سابقاً، عائشة محمد الملا، أهمية وضع «إطار عمل مرن» يدعم الأم دون أن يعوق مسيرتها المهنية.

وقالت: «يجب مراعاة تقسيم المهام وساعات العمل ونوعية الوظائف المسندة للأمهات، دون أن يُنظر لذلك كعائق في تقييم الأداء أو فرص الترقية، بل كضرورة مؤسسية لضمان التوازن والاستقرار».

وتابعت أن تنظيم الوقت يبقى مسؤولية مشتركة، لأن الأم الموظفة معنية بإدارة وقتها ومواردها بفاعلية.

كما أشارت إلى أن التوازن الحقيقي لا يعني المثالية، بل القدرة على الفصل الواعي بين الأدوار، بحيث تنجز المرأة مهامها الوظيفية بكفاءة، وتحافظ على حضورها الأسري وتتابع شؤون أطفالها دون أن تضعف روابطها بهم أو تُفرّط في صحتها النفسية.

المثالية المطلقة

وقالت الدكتورة مايا الهواري، وهي أول دكتورة إماراتية في الذكاء العاطفي، إن التحدي الأكبر يكمن في السعي غير الواقعي نحو «المثالية المطلقة، فالمرأة تحاول أن تكون أماً مثالية، وزوجة مثالية، وموظفة مثالية، دون أن تدرك أن الوصول إلى النجاح الكامل 100% في كل هذه الأدوار أمر مستحيل».

وتابعت أن «الضغط الذاتي يُولّد إحساساً بالتقصير، ويمنع من طلب المساعدة، ما يؤدي إلى الإرهاق والاحتراق النفسي». وشرحت أن «التعب النفسي المتراكم ينعكس على كل مناحي الحياة، فالمرأة تعود من العمل منهكة، بلا طاقة للعناية بنفسها أو بأسرتها، وغالباً ما يكون الزوج هو الطرف المظلوم في هذه المعادلة. وبعض الأزواج يشعر بعدم التقدير أو التهميش، خصوصاً إذا لم تُقسم الأدوار بشكل واضح من البداية».

وأكدت أن أكثر ما يعزز التوازن هو البيئة الأسرية الداعمة، وعلى رأسها الزوج، إضافة إلى نوعية العمل، لأن بعض الوظائف تنتهي مع نهاية الدوام، وأخرى تمتد إلى البيت، ما يجعلها تتداخل مع حياة الأسرة، وتضغط على الأم والزوج والأبناء.

كما شددت الهواري على ضرورة رفع الوعي المجتمعي بأهمية توزيع الأدوار داخل الأسرة، وتعزيز مفهوم الشراكة الحقيقية بين الزوجين.

مفتاح التوازن

وأكدت عضو المجلس الوطني الاتحادي، منى حماد، أن التوازن يتجاوز مجرد التنسيق بين وقت العمل ووقت الأسرة، لأن الأمهات العاملات يعشن تحت ضغط مستمر، تمتد فيه المسؤوليات لتشمل الزوج والأبناء، وأحياناً الأهل، ويتطلب منها الأمر تأهيلاً نفسياً ومجتمعياً ومؤسسياً حتى تستطيع الصمود.

وتابعت أن «التحدي لا يقتصر على المرأة فقط، بل يشمل كل فرد في الأسرة، ومن هنا تبرز أهمية وجود تشريعات مرنة في بيئات العمل تتيح للمرأة ظروفاً مناسبة، سواء عبر أنظمة الدوام الجزئي، أو الإجازات المرنة، أو حتى تقديم تسهيلات خاصة في حالات مرافقة المرضى أو السفر للعلاج».

ولفتت إلى أن الرشاقة المؤسسية في التعاطي مع هذه الحالات تضمن الاستدامة، وتُعزز الأداء الوظيفي، دون أن تكون عبئاً ثقيلاً على هيكل العمل.

ودعت إلى وجود منصات مجتمعية مثل مجالس الإرشاد الأسري، بإشراف مختصين في الصحة النفسية والتربية الخاصة، لتوفير مساحة للتوجيه والتثقيف وتبادل الخبرات، وتعزيز التكاتف الاجتماعي، وتخفيف الشعور بالوحدة والإنهاك.

ورأت أن المعضلة المالية لا تقل ثقلاً، حيث تُمثّل تكاليف الرعاية والتأهيل والرعاية الطبية عبئاً يومياً يُثقل كاهل أسر أصحاب الهمم، و«من المهم توحيد خدمات الدعم لأصحاب الهمم تحت مظلة واحدة شاملة، مع ضرورة وضع سقف لرسوم مراكز الرعاية والمستلزمات الأساسية، تجنّباً لاستنزاف موارد الأسرة كلها لصالح فرد واحد، ما يخلق فجوات نفسية واجتماعية بين الإخوة، ويؤثر في ديناميكية الأسرة ككل».

وأوصت بإنشاء حضانات متخصصة لأصحاب الهمم، ما يتيح لموظفيها وضع أبنائهم في بيئة آمنة وداعمة خلال ساعات الدوام الرسمي.

بيئة عمل داعمة للوالدين

تسعى مؤسسات في الدولة إلى توفير بيئة عمل داعمة للوالدين، من خلال تبني أفضل الممارسات.

ونالت جهات عدة محلية وعالمية، أخيراً «علامة الجودة لبيئة عمل داعمة للوالدين» في دورتها الثالثة، ضمن برنامج أطلقته هيئة أبوظبي للطفولة المبكرة.

وأكدت موانئ دبي العالمية لـ«الإمارات اليوم» اعتمادها مجموعة من السياسات الداعمة، من أبرزها رفع إجازة الأمومة إلى 100 يوم، وإجازة الأبوة إلى ستة أيام، إضافة إلى استحداث ثلاثة أيام إجازة طارئة لرعاية الأسرة. كما تم تمديد ساعات الرضاعة إلى ساعتين يومياً لمدة 12 شهراً، وإطلاق ورش عمل للأمهات ومجموعات دعم تعزز التوازن بين العمل والأسرة. كما أكدت أنها تعمل على إنشاء مركز لرعاية الأطفال، بهدف دعم الأهالي الجدد، وتسهيل عودتهم إلى العمل. وأشار مركز تنمية الطفل إلى تطوير مجموعة من المبادرات المصممة لتلبية احتياجات الآباء والأمهات من الموظفين، تتضمن أنظمة العمل المرنة لتناسب جداول الأسرة. وقال إنه يُقدّم إجازة والدية مدفوعة الأجر، بأيام تتجاوز الأيام المعتمدة في قانون دولة الإمارات، ما يمنح الوالدين الوقت الكافي للتواصل مع أطفالهم ورعايتهم.

كما يسعى المركز إلى توفير مزايا صديقة للأسرة، وإتاحة الوصول إلى برامج المركز التعليمية والعلاجية، وبرامج دعم الوالدين للموظفين وأطفالهم.

شاركها.