تدفع الولايات المتحدة اليوم ثمناً متزايداً لشعورها بالهيمنة على العالم، وهي ربما بذلك تنجرف شيئاً فشيئاً نحو الانحدار وتقويض مكانتها العالمية، بينما تواصل قيادتها في عهد الرئيس دونالد ترامب، التمسك بفكرة «الاستثنائية الأميركية» وكأنها حقيقة مطلقة غير قابلة للتغير. لكن التاريخ يؤكد أن الاستثناء لا يدوم، وأن التمسك بالهيمنة من دون قراءة دقيقة للواقع الدولي والاقتصادي قد يسرّع نهاية هذه الحقبة.

قبل مجيء إدارة ترامب، كانت الولايات المتحدة تمثل نموذجاً عالمياً فريداً في الاقتصاد والسياسة والابتكار، فقد بُني تفوقها على دعائم قوية، مثل الانفتاح الاقتصادي، والتجارة الحرة، واستقلالية المؤسسات المالية، وبالأخص مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي)، الذي كان يقرر السياسات النقدية بعيداً عن تأثيرات السياسة قصيرة الأمد.

لقد كانت الأسواق الأميركية مفعمة بالثقة، مدعومة بسيولة غير مسبوقة، وبنية تحتية قوية في سوقي السندات والأسهم، إلى جانب عملتها القوية (الدولار)، التي لطالما كانت مخزناً آمناً للقيمة.

وبلغ هذا التفوق ذروته في تسعينات القرن العشرين، حين شهد الاقتصاد الأميركي نمواً سريعاً وابتكاراً تقنياً غير مسبوق، مستقطباً المستثمرين من مختلف أنحاء العالم، حيث كانت الولايات المتحدة تُلهِم رواد الأعمال الشباب، وتجذب رؤوس الأموال، وتشكل مؤشراً يومياً للأسواق الآسيوية التي كانت تتابع تحركات «وول ستريت» كما لو كانت أحداثاً محلية.

معالم التراجع

لكن في العقود الأخيرة، بدأت معالم التراجع تظهر تدريجياً. ووفقاً لقاعدة بيانات «الإيكونوميست»، حقق الاقتصاد الأميركي نمواً بنسبة 2.1%، مقارنة بـ1.5% في أوروبا. ورغم أن الهند والصين تحققان نسب نمو أعلى (7.8% و5.2% على التوالي)، إلا أن الفجوة في الدخل الفردي لاتزال كبيرة جداً، إذ يبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة نحو 85 ألف دولار، مقابل 43 ألفاً في أوروبا، و13 ألفاً في الصين، و2700 دولار فقط في الهند، وفقاً لبيانات البنك الدولي.

وأسهم هذا الأداء في تعزيز تصور تفرد الولايات المتحدة عن دول العالم المتطورة، أي أن أميركا كانت، وبطريقة ما، أفضل بشكل مستدام في معظم المجالات تقريباً من أي دولة أخرى. كما قادت الولايات المتحدة العالم عبر مرحلة من النمو الاقتصادي والتكنولوجي لا تقارن بأي فترة أخرى في التاريخ المعاصر، حيث كانت الأولى بلا منازع في معظم المجالات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية.

غير أن التفوق العددي في الناتج والدخل لا يضمن الاستدامة، خصوصاً إذا ترافقت هذه الاستدامة مع شعور بالتفوق المستمر أو الاستثنائية الدائمة.

تغيرات جيوسياسية

ورغم أن الولايات المتحدة لعبت دوراً محورياً في قيادة النمو الاقتصادي العالمي، وكانت في طليعة الابتكار والتقدم التكنولوجي والعسكري، فإن فكرة «الاستثنائية الأميركية» أي الاعتقاد بأنها «أفضل من الجميع دائماً» تحمل في طياتها بذور التراجع، كما علمتنا تجارب الإمبراطوريات السابقة، مثل البريطانية والرومانية والمنغولية، التي وصلت جميعها إلى ذروة القوة قبل أن تتراجع بفعل الغطرسة والتغيرات الجيوسياسية.

وفي نهاية المطاف ستنتهي الغطرسة والفخر والشعور بالاستثنائية في العالم، وسيظهر منافسون آخرون كي يحلوا مكان أميركا، مثل ما حدث مع الإمبراطوريات التي سبقتها. وكما يقول المثل: «العصر الحجري لم ينته لأن العالم نفدت منه الحجارة»، حيث إن هناك تحديثاً وتطورات جديدة تطغى على القديمة.

ويؤكد التاريخ أن الفخر الزائد يسبق السقوط، وكما انهارت مدينة البندقية التي كانت مركز التجارة العالمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر نتيجة صراعات عسكرية وتغيرات اقتصادية، فإن الولايات المتحدة ليست في مأمن من مصير مشابه، وإن كان بشكل مختلف وأكثر تعقيداً.

شعور غير واقعي

صحيح أن الاقتصاد الأميركي لايزال قوياً حتى الآن، لكن الخطر يكمن في التراجع البطيء والمستمر الناتج عن قرارات ربما خاطئة تستند إلى شعور غير واقعي بالاستثنائية. وفي عهد ترامب، برز هذا الشعور بشكل واضح من خلال سياسة «أميركا أولاً واجعلها عظيمة مرة أخرى»، والتي عزلت الولايات المتحدة عن حلفائها وشركائها، وقوّضت سمعة مؤسساتها، وأثارت شكوك المستثمرين الدوليين.

إن الانعزالية، وسياسة «أميركا أولاً» تتعارضان مع ديناميكية الانفتاح التي أدت إلى تطور الولايات المتحدة، وتدفق مواهب العالم إلى «وادي السيليكون» لدفع عجلة الطفرة التكنولوجية، حيث كان أفضل مكان في العالم للتعلم والعمل والازدهار.

تغير في النظرة

وقد أسهمت هذه السياسات في تغيير النظرة إلى الولايات المتحدة، ليس فقط من الخارج، بل حتى من الداخل، حيث يتزايد عدد الأميركيين المتضررين من التكنولوجيا الجديدة والعولمة. وكان من المفترض أن تكون أميركا نقطة جذب للمواهب العالمية، كما كان الحال في «وادي السيليكون»، لكن اليوم، نشهد تغيراً في الاتجاه: «بينما تعتزل أميركا العالم، قد يبدأ العالم في عزل أميركا».

العلامات على هذا التغيير بدأت بالظهور، فقد انخفضت حصة الدولار من احتياطي النقد العالمي من 72% في عام 2000 إلى 58% في العام الماضي. كما تراجعت نسبة صادرات الولايات المتحدة من التجارة العالمية من 15% في عام 1970 إلى 9% فقط في 2019، بينما ارتفعت حصة الصين إلى 17%.

لكن الولايات المتحدة لاتزال واحدة من أكبر مصدري الخدمات عبر الحدود في قطاعات عدة مثل القانون، والمحاسبة، والتدقيق، والتكنولوجيا المالية، والترفيه، والهندسة المعمارية، والإعلان، والتعليم، والاستشارات. وتتفوق هذه الصادرات على تجارة السلع من حيث النمو والقيمة المضافة، إلا أن فرض القيود والرسوم الجمركية على تلك القطاعات يهدد مكانتها العالمية.

تزايد المخاوف

تعمقت المخاوف في ظل سياسات ترامب المتقلبة، التي استهدفت استقلالية «الاحتياطي الفيدرالي»، وهاجمت الصحافة، وقيدت القوانين الناظمة، وخلقت بيئة سياسية واقتصادية غير مستقرة وغير قابلة للتنبؤ. كل هذه السياسات أدت إلى تقويض ثقة المستثمرين، الذين بدأوا بالتحوط بشراء الذهب بدلاً من الاحتفاظ بالدولار، ما يشير إلى تراجع الثقة بالعملة الأميركية كملاذ آمن.

كما تتزايد المخاوف بشأن ارتفاع الدين العام الأميركي، الذي يتوقع أن يتضخم بسبب سياسات الإنفاق غير المنضبطة، لاسيما في ما يتعلق بالاستثمارات الكبرى في الذكاء الاصطناعي. وقد يؤدي هذا الدين إلى ارتفاع أسعار الأصول، ما يجذب المستثمرين الأجانب، لكنه في الوقت نفسه يزيد من هشاشة الأسواق أمام الصدمات المحتملة.

ومع تصاعد هذه الديناميكيات، تصبح «الاستثنائية الأميركية» أقرب إلى أسطورة من كونها حقيقة، تشبه الاعتقاد المسبق لدى مشجعي «الغولف» الأميركيين قبل بطولة «كأس رايدر» الأخيرة، حين ظنوا أن فريقهم سيفوز بسهولة فقط لأن معظم اللاعبين الأفضل كانوا أميركيين، لكن النتيجة جاءت معاكسة، حيث تفوق الفريق الأوروبي بوضوح، ليبرهن أن الثقة الزائدة لا تصنع الانتصارات. عن «ساوث تشاينا مورنينغ بوست»

التكيف والانفتاح

الولايات المتحدة تسير في طريق تآكل تدريجي لمكانتها العالمية، ما لم تدرك أن استثنائيتها لم تعد تُقاس بالفخر والهيمنة، بل بالقدرة على التكيف، والانفتاح، والقيادة الحكيمة.

سياسة «أميركا أولاً» عزلت الولايات المتحدة عن حلفائها وشركائها وقوّضت سمعة مؤسساتها وأثارت شكوك المستثمرين الدوليين.

شاركها.