خلال الفترة الأخيرة من الحرب الباردة، اتسمت نهضة العالم الغربي بشراكة استثنائية بين الرئيس الأميركي الراحل، رونالد ريغان، ورئيسة الحكومة البريطانية، الراحلة، مارغريت تاتشر، والبابا الراحل، يوحنا بولس الثاني.
وكان هذا التحالف مستنداً إلى رؤية مشتركة للحرية السياسية، والإيمان والحرية الاقتصادية، التي صاغت شكل العالم. وفي هذه الأيام، وفي الوقت الذي يعمل به الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لإعادة مكانة أميركا في العالم، بينما يقوم البابا، ليو، ببدء مرحلته الباباوية، بدعوة قوية إلى احترام كرامة الإنسان في مرحلة الذكاء الاصطناعي، يتساءل المرء: من هو الشخص الذي سيبرز في هذه اللحظة كما فعلت تاتشر سابقاً؟
ويأتي الجواب متسارعاً بأنها رئيسة الحكومة الإيطالية، جورجيا ميلوني.
وشهد العقد الثالث من القرن الـ21 بزوغ تحالف عبر الأطلسي، ظهرت فيه ميلوني لتلعب دوراً محورياً في أوروبا.
وبينما يعاني المركز السياسي للقارة التشرذم والإرهاق، لم تبرز ميلوني فقط كناجية من هذا الوضع، بل كأقوى شخصية في أوروبا، وجسر بين واشنطن وبروكسل، ومهندس نظام محافظ جديد.
لكن السؤال: لماذا تبدو ميلوني الآن بهذه الأهمية؟ لنتذكر ما الذي جعل شراكة «تاتشرريغان» استثنائية إلى هذا الحد. لم تكن تاتشر حليفة ريغان، بل كانت نظيرته الفكرية، وأحياناً منافسته.
كان كلا الزعيمين من خارج المؤسسة الحاكمة، ناشرين لفضائل المبادرة الحرة والتجديد الوطني. وكانت علاقتهما أسطورية، ومتجذرة في الاحترام المتبادل، والتواصل الدائم، والاستعداد لدفع كل منهما الآخر نحو إجراءات أكثر جرأة.
ولم يكن يجري الشعور بنفوذ تاتشر لمجرد دعمها الثابت لمواجهة ريغان مع الاتحاد السوفييتي، وإنما لقدرتها على صياغة تفكيره. ولم تكن شراكتهما تخلو من «المنغصات»، فقد نشب خلاف بينهما في أحداث عدة، مثل حرب «جزر الفوكلاند» التي قامت بها تاتشر، وحرب «غرينادا» التي قام بها ريغان، إضافة إلى السياسة الاقتصادية التي لم يتفقا عليها أحياناً، لكن وحدتهما كانت قوة مضاعفة للعالم الغربي.
وفي الانتقال إلى عام 2025، وأوروبا تبحث عن تاتشر جديدة، أي قائد يحمل رؤية مميزة، وتصميماً، ومهارة سياسية لمشاركة الولايات المتحدة، هنا تأتي ميلوني أول امرأة رئيسة حكومة لإيطاليا.
ويعد صعود ميلوني شبيهاً بـ«التاتشرية»، فبعد أن تم رفضها باعتبارها متطرفة من الفاشية الجديدة، حولت حزبها «إخوة إيطاليا» من هامشي إلى تيار رئيس، وترأست حكومة مستقرة في بلد معروف بالفوضى السياسية.
ويهيمن ائتلافها على الساحة السياسية الإيطالية، وظلت نسب تأييدها قوية، حتى مع سعيها لإصلاحات مثيرة للجدل.
لكن ما يميز ميلوني هي مكانتها المتنامية على الساحة العالمية، فقد أصبحت الزعيمة الأوروبية الأكثر تقارباً مع ترامب، حيث اكتسبت ثقته. وكانت رئيسة الحكومة الوحيدة، ضمن زعماء دول الاتحاد الأوروبي التي تمت دعوتها لحضور حفل تنصيب ترامب عام 2025، في إشارة رمزية إلى دورها الناشئ كحاملة لواء المحافظين في القارة.
وتبدو المقارنة مع فترة «ريغانتاتشر» كبيرة.
وكما هي الحال لدى تاتشر، تبدو ميلوني سياسية مقنعة، بموهبة بناء «الائتلافات»، ومهارة تطويع الأحداث لإرادتها. ولقد استغلت منصبها لإحداث تغيير في النقاش الأوروبي حول الهجرة والأمن والسيادة، مدافعة عن سياسات اعتمدتها بروكسل، بشكل أو بآخر، وحذا حذوها قادة أوروبيون آخرون.
وكانت مهارة ميلوني الدبلوماسية واضحة في تعاملاتها مع واشنطن وبروكسل. وتمكنت من احتفاظ إيطاليا بدعم أوكرانيا وحلف شما الأطلسي (الناتو)، وفي الوقت ذاته تقوم بتشييد العلاقات مع الدائرة الضيقة حول ترامب والسياسيين الشعبويين الآخرين. وتذكر قدرتها على تجسير الهوة بين أميركا التي يزداد فيها التشدد القومي، وأوروبا باعتبارها محوراً لا غنى عنه بين طرفي الأطلسي.
وبالطبع، فإن التشابه ليس تاماً، إذ إن إيطاليا ليست هي المملكة المتحدة في ثمانينات القرن الماضي، كما أن المشهد الجيوسياسي في هذه الأيام يتسم بتعدد الأقطاب. وكانت بريطانيا أيام تاتشر، دولة نووية وحليف أميركا الوثيق.
لكن إيطاليا، التي تقودها ميلوني، على الرغم من نفوذها، لا تمتلك النفوذ ذاته مثل بريطانيا، كما أن أوروبا في هذه الأيام أكثر تفتتاً، إضافة إلى تعدد التهديدات التي تواجهها، مثل الهجرة، وانعدام الاستقرار في مجال الطاقة، والاضطرابات التكنولوجية، وتختلف عن التهديد الوجودي الذي شكلته الشيوعية السوفييتية.
ولا يمكن إنكار تأثير ميلوني، فهي أظهرت أن القادة الأوروبيين يستطيعون تشكيل الأجندة العالمية، بشرط أن يجمعوا بين الوضوح الأيديولوجي والبراغماتية السياسية. ومثل تاتشر، فإن ميلوني مستعدة لتحدي التقاليد والمخاطرة، ولو أدى ذلك إلى إثارة الجدل.
وفي الوقت الذي يسعى فيه ترامب إلى إعادة دور أميركا في العالم، فإنه بحاجة إلى شريك أوروبي يتجاوز مجرد شخص يقدم له التشجيع، بل هو يريد شخصاً يمكن أن يضاهيه في الرؤية والمثابرة. وميلوني، بمزيجها من القناعة والكاريزما والحس الاستراتيجي، في وضع فريد للقيام بهذا الدور.
لقد أدى تحالف «تاتشر ريغان يوحنا بولس الثاني» إلى تغيير مسار التاريخ. وسيثبت لنا التاريخ إذا استطاعت شراكة «ميلوني وترامب» التوصل إلى نتائج مماثلة لـ«تاتشر وريغان»، لكن بصفتها وسيطة القوة الجديدة في أوروبا، أظهرت ميلوني بالفعل استعدادها للصعود إلى المسرح العالمي، وربما، مثل تاتشر التي سبقتها، تسهم في تشكيل مصير الغرب. عن «ذي هيل»
. بينما يعاني المركز السياسي للقارة التشرذم والإرهاق، لم تبرز ميلوني فقط كناجية من هذا الوضع، بل كأقوى شخصية في أوروبا، وجسر بين واشنطن وبروكسل.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news