في كل عام، تتوقف دبي والإمارات عند يوم السابع من أكتوبر لتستذكر رجلاً لم يكتفِ برؤية المستقبل، بل قام ببنائه بيديه وبعزيمة لا تلين، حيث استطاع أن يحوّل الحلم إلى خريطة والرمال إلى ذهب.. إنه المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، مهندس نهضة دبي الحديثة.. وهو القائد الذي تحوّلت دبي في عهده من إمارة صحراوية إلى مركز عالمي حديث بفضل رؤيته الثاقبة، وبنائه البنية التحتية، وتنويعه الاقتصاد بعيداً عن الاعتماد على النفط. وقد أسس دبي الحديثة، وأسهم في قيام دولة الاتحاد، ورسخ مبادئ التنمية والازدهار في الإمارة.
خلال العقود الثلاثة، لم تتطور إمارة دبي فحسب، بل تغيرت مفاهيم القيادة والتنمية الاقتصادية في المنطقة بأسرها؛ إذ لم يكن الشيخ راشد قائداً تقليدياً، بل كان مهندساً ومخططاً حضرياً واقتصادياً، وضع أول خريطة لنهضة دبي الحديثة، وحوّلها من مجرد قرية صيد وتجارة لؤلؤ محدودة الموارد إلى مفترق طرق للتجارة العالمية وميناء لا ينام.
وتحيي دولة الإمارات، اليوم، الذكرى الـ35 لرحيل المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، الذي ارتبط اسمه بنهضة دبي، وتحويلها إلى مدينة عالمية متقدمة بإنجازاتها الاقتصادية والتنموية العملاقة.
وُلد الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم في أوائل العقد الثاني من القرن العشرين، ونشأ في حي الشندغة القديم بدبي، في كنف أسرة آل مكتوم التي تربّت على قيم البساطة والرؤية التجارية.
وتوفي المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، في السابع من شهر أكتوبر عام 1990، الموافق الـ18 من شهر ربيع الأول عام 1411هـ، عن عمر ناهز 78 عاماً، قضاها في خدمة أمته ووطنه ومواطنيه، وقدم خلالها كل ما يملك في سبيل تحقيق مسيرة الخير والنماء والازدهار.
وكان والده، الشيخ سعيد بن مكتوم، حاكماً معروفاً بحبه للعدل والاستقرار، وكان من الطبيعي أن يظهر من بعده من يُعطي دبي بُعداً جديداً.
بدأ الشيخ راشد مسيرته في فترة حرجة، حيث كانت دبي تعاني تداعيات انهيار تجارة اللؤلؤ، والحصار البحري الذي أعقب الحرب العالمية الثانية.
كانت التحديات هائلة، وعوائد البترول لم تكن كافية لتمويل طموحاته التنموية. وهنا تجلت عبقريته القيادية في تحويل الأزمة إلى فرصة، حيث آمن بمبدأ بسيط، ولكنه ثوري، وهو أن الموقع أهم من النفط، فكان يؤمن بأن دبي يجب أن تكون مركزاً للتجارة، بغض النظر عن مواردها الطبيعية.
من أوائل خطواته، أدرك الشيخ راشد أن التوسع العشوائي لن يوفّر الاستدامة، فعمل على اعتماد مخططات تنظيمية مدروسة، فكلف شركة استشارية بريطانية بوضع مخطط عمراني عصري لدبي، وهو أول مخطط منظم في الخليج في تلك الفترة.
رهان على المستقبل
لم ينتظر الشيخ راشد تدفق النفط ليطلق مشروعاته العملاقة، بل اتخذ قرارات جريئة بتمويل مشاريعه التنموية الكبرى من خلال قروض خارجية ورهن مستقبل الإمارة في قدرته على الإنجاز. وكانت أبرز ركائز هذه النهضة، تعميق خور دبي، الشريان النابض (19591970)، إذ كان الخور هو القلب التجاري للإمارة، لكن ضحالة مياهه كانت تقيد حركة السفن الكبيرة.
وفي عام 1959، وبقرض قيمته نصف مليون جنيه إسترليني، اتخذ الشيخ راشد القرار التاريخي ببدء أعمال الحفر والتوسعة للخور.
ولم يكن هذا مجرد مشروع هندسي، بل كان إعلاناً عن رؤية مفادها أن دبي مستعدة لاستقبال كبريات السفن التجارية في العالم، وتوسعت أعمال الحفر للمرة الثانية عام 1968 لزيادة عمق وعرض الشريان النابض.
وإدراكاً منه لأهمية التحول من التجارة التقليدية إلى التجارة العالمية، أطلق الشيخ راشد سلسلة من مشاريع الموانئ التي تجاوزت حدود المعقول في ذلك الوقت، شملت ميناء راشد (1972) فكان هذا المشروع أول ميناء عصري يستوعب سفن الشحن الكبرى، وفتح دبي على التجارة الدولية بشكل غير مسبوق.
ثم تلا ذلك ميناء جبل علي (1979) وأحواض دبي الجافة (1983)، ويعد ميناء جبل علي، الذي شُيد في الصحراء بعيداً عن المركز الحضري، مثالاً على الرؤية التي سبقت عصرها، إذ كان المشروع ضخماً ويحتاج لتمويل هائل، لكنه أثبت بعد سنوات أنه رهان ناجح أرسى مكانة دبي كأكبر مركز لإعادة الشحن في المنطقة.
ولم يقتصر الإنجاز على البحار فقط، بل امتد إلى بناء الدولة والمجتمع، فوضع حجر الأساس لمطار دبي الدولي (1959)، مدركاً أن المستقبل ليس للموانئ البحرية فقط، بل للنقل الجوي.
كما شرع في بناء الجسور والطرق، وافتتح جسر آل مكتوم (1962)، الذي كان أول جسر يربط بين ديرة وبر دبي، تبعه افتتاح نفق الشندغة (1975)، ما وحّد طرفي الإمارة، ويسّر الحركة التجارية.
وشهد عهده إنشاء دائرة الأراضي والأملاك (1960)، وبلدية دبي (1961)، وبنك دبي الوطني (1963) كأول بنك وطني، إضافة إلى شركة الكهرباء والهاتف، ما أرسى قواعد الإدارة الحكومية الحديثة.
ويضاف إلى ما سبق مركز دبي التجاري العالمي (1978) الذي كان رمزاً للطموح، وأول ناطحة سحاب حديثة في المنطقة، معلناً دخول دبي إلى عالم الأعمال الدولي.
لم تقتصر إنجازات الشيخ راشد على البنى التحتية فقط، بل شهدت دبي في عهده قفزات سكانية مذهلة. ففي عام 1968، كان عدد سكان الإمارة نحو 59 ألف نسمة فقط، ومع حلول عام 1980 ارتفع عددهم إلى نحو 278 ألف نسمة.
هذه الطفرة السكانية فرضت حاجة إلى تطوير شبكة الطرق، والمواصلات، والمساكن والخدمات، فجاءت مشاريع التوسعة الحضرية بوعي تام، علماً بأن الشيخ راشد كان يحرص على متابعة المشاريع بنفسه، وزيارة مواقع التنفيذ مراراً ليستمع إلى العاملين والمواطنين، ويعدّل الخطة إذا لزم الأمر.
شريك حلم العمر
لم تقتصر إنجازات الشيخ راشد على حدود دبي، بل كان شريكاً أساسياً وفعالاً في بناء دولة الإمارات العربية المتحدة. فإلى جانب أخيه ورفيق دربه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، كان الشيخ راشد أحد الأعمدة المؤسسة للاتحاد.
لقد تجسدت رؤيتهما في المقولة الشهيرة: «ما أنا وراشد إلا توأم؛ فما يريده هو أريده، وما يريده الاتحاد وشعبه نريده»، وكانت جلساتهم واجتماعاتهم الثنائية هي النواة التي أثمرت إعلان الاتحاد في 2 ديسمبر 1971.
في دولة الاتحاد، تولى الشيخ راشد منصب نائب رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء، حيث سخّر إمكانات دبي ومواردها لخدمة المسيرة الاتحادية الشاملة، مؤكداً مبدأ وحدة المصير والاستقرار الإقليمي.
«كل درهم له قيمة كبرى»
لم يكن نجاح الشيخ راشد اقتصادياً فحسب، بل كان نابعاً من فلسفة حكم فريدة تركت بصمات عميقة في ثقافة الإدارة بدبي، تستند إلى أن الحكمة في الإنفاق والابتعاد عن التبذير. تُعرف فلسفة الشيخ راشد القيادية بتأكيده أن «كل درهم في دبي، له قيمة كبرى، ولا يتم صرفه إلا في مكانه الصحيح».
هذه الثقافة القائمة على صرف المال بحكمة والابتعاد عن التبذير الحكومي، هي التي مكّنته من تمويل مشاريع ضخمة رغم محدودية الموارد، وكان يراقب المشاريع عن كثب، ويشارك في التخطيط والتنفيذ، مقتنعاً بأن القائد هو الشخص الأكثر نشاطاً والأقدر على تنفيذ المشاريع بكل كفاءة.
التواصل المباشر مع الشعب
كان الشيخ راشد يجسد القائد القريب من شعبه وتجاره، فاشتهر بكرمه وحبه الخير ومد يد العون للمحتاجين، وكانت الأعمال الإنسانية جزءاً أصيلاً من نهجه. وبفضل هذه العلاقة المباشرة، اكتسب ثقة التجار والمستثمرين، ما شجعهم على العمل والاستثمار في دبي، لأنه كان يضمن لهم بيئة آمنة وداعمة لأعمالهم.
بناء قادة المستقبل
كان الشيخ راشد يؤمن بأن إرثه الحقيقي ليس في المباني والموانئ، بل في صناعة القادة، فأحاط نفسه بالكفاءات، ووفر الفرص لأبنائه وأبناء شعبه لتحمل المسؤولية، وكان نهجه في تمكين الجيل القادم هو حجر الزاوية الذي أرسى السياسة الحالية لدبي في الاستثمار في العنصر البشري. وقد ورّث هذه الثقافة لنجله صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، الذي واصل المسيرة نحو العالمية.
خاتمة الإرث الخالد
عندما غيب الموت الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم في السابع من أكتوبر 1990 عن عمر ناهز 78 عاماً، لم يترك خلفه مدينة عصرية فحسب، بل ترك إمارة متكاملة الأركان، واقتصاداً متيناً، ومجتمعاً متماسكاً تسوده قيم العطاء والانضباط.
لاتزال بصماته ماثلة في ملامح دبي الحديثة، من موانئها وجسورها ومؤسساتها، شاهدة على رؤية قائد حوّل بذكائه وقيادته دبي من نقطة في الصحراء إلى منارة للتجارة العالمية وفرصة لتحقيق الأحلام، لتصبح اليوم أيقونة عالمية للتنمية والإصرار. وإذا سألت عن معلم بسيط يحمل بصمته، فكُن مطمئناً أنك في دبي ستمضي بين شوارع وموانئ وأنفاق ومشاريع كلها تحمل بصمة رجل لم يرضَ أن تكون مدينته مجرد لوحة عرض، بل مدينة تنبض بالحياة، تُنتج، تفكر، وتتنافس.
في السابع من أكتوبر، نستذكر المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، ليس حاكماً أو مؤسساً فحسب، وإنما حالم ومخطط، رفع سقف الممكن، ونقل دبي من مدينة على الخور إلى قطب عالمي. إن قصته تذكير بأن النهضة لا تُبنى بالأماني فقط، بل بالتخطيط والعمل، وأن الريادة تحتاج من يقترن اسمه بالمشروع المستمر.
التعليم والصحة والمواطنة
لم تقتصر رؤية المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، على الموانئ والأبراج، بل امتدت إلى بناء المجتمع السليم والمستنير. لقد أدرك مبكراً أن الازدهار الاقتصادي لا يمكن أن يستمر دون تعليم شامل ورعاية صحية متقدمة. لذلك، لم ينتظر توفر الموارد بسهولة، بل سارع لافتتاح المدارس النظامية التي بدأت في الظهور، مثل «المدرسة الأحمدية» التي كان من أوائل الملتحقين بها في صغره، ثم عمل على تخصيص جزء من قصره لاحقاً ليكون مدرسة «السعدية» عام 1958. لم يكن التعليم مجرد حق، بل كان استثماراً في العقل الإماراتي، حيث كان يرسل الطلاب للدراسة في الخارج على نفقته الخاصة ليعودوا قادة ومتخصصين في بناء الدولة. وفي مجال الرعاية الصحية، أشرف على تأسيس أول المستشفيات والمراكز الصحية المجهزة، مؤكداً أن توفير الحياة الكريمة للمواطنين والمقيمين يبدأ من ضمان أمنهم الصحي والتعليمي، كما شهد عهده إنشاء دائرة الكهرباء والماء وخدمات الاتصالات الأساسية، ما حوّل الحياة من صعوبة البيئة الصحراوية إلى سهولة المدن الحديثة.
مجلس مفتوح للحلول
كان مجلس المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، مفتوحاً للجميع في قصر زعبيل، حيث كان المنصة الأبرز التي تجلت فيها إنسانيته وعدله، إذ كان مجلساً للحلول لا للأحكام، فلم يقتصر دوره على تلقي التقارير الرسمية فحسب، بل ساحة للعدالة الاجتماعية المباشرة.
وكان الشيخ راشد يتحلى بالحلم والصبر الشديدين، ويصغي لكل رأي أو شكوى أو مظلمة، حتى وإن كانت من أفراد عاديين أو من جنسيات متعددة، ويقدم أفضل الحلول للقضايا والمشكلات، موفراً المساعدة لكل فرد يطلبها.
ولم يكن يرضى بترك أي شخص يعاني ضائقة مادية أو اجتماعية دون أن يجد له مخرجاً، سواء كان ذلك بتقديم دعم مالي مباشر أو بتوجيه المسؤولين لحل المشكلة فوراً.
وتميز المجلس كذلك بأنه كان لجميع الجنسيات، إذ كانت دبي، حتى في ذلك الوقت المبكر، تضم أشخاصاً من جنسيات مختلفة، لذا حرص المغفور له على أن يكون مجلسه قاعدة للحوار البنّاء بين الجميع، ما أرسى مبدأ التعايش والتسامح الذي تقوم عليه الإمارة اليوم.
كما كانت إنسانية الشيخ راشد تتجلى في منهجه في العمل، كما رواها عنه ابنه صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله. فالمغفور له كان مدرسة في البساطة والصدق، وكان يعلّمه بساطة العيش وضبط النفس، وأن يكون قريباً من أهله وإخوانه، مؤكداً أنه تعلم منه حب الصدق وحب العدل، كما أكد أن الشيخ راشد كان كريماً وودوداً ومتسامحاً، يخصص لكل شخص جزءاً من وقته، وهذا يؤكد مدى قربه من الناس بعيداً عن البروتوكولات الرسمية.
واتسم المغفور له بالابتعاد عن التفاخر فتجنب الفخامة والبذخ، ولم يؤثر عنه شيء من الإسراف، بل كان يفضل التواضع الجم، ويلقاه الناس كأنه واحد منهم لا يتميز عنهم بشيء، ما جعله يحظى بمحبة وإجلال شعبي واسع.
• 32 عاماً تحوّلت فيها دبي بعهده إلى مركز عالمي حديث للاقتصاد والمال والأعمال والعيش الرغيد.
•راشد بن سعيد حوّل دبي من قرية صيد وتجارة لؤلؤ محدودة الموارد إلى وجهة للتجارة العالمية وميناء لا ينام.
•الأعمال الإنسانية وحب الخير ومد يد العون للمحتاجين، كانت جزءاً أصيلاً من نهج راشد.
•رفيق درب زايد في تأسيس وبناء دولة الإمارات العربية المتحدة.
•راشد بن سعيد قائد تميز بالعدل والإنسانية وحب الناس فاكتسب ثقة الجميع.