يعيش ذوو التوحد تحديات من نوع خاص، مع انتقال الطفل من مرحلة الطفولة إلى البلوغ، إذ تَبرز صعوبات جديدة تتطلب فهماً أعمق ودعماً أكبر لهذه المرحلة الحساسة من أعمارهم.
ويستعرض مختصون من مركز دبي للتوحد، وأولياء أمور أطفال من ذوي التوحد، أبرز التحديات التي يواجهونها، وسبل الدعم والأساليب المناسبة للتعامل معها، بما يراعي احتياجات أطفالهم النمائية والانفعالية.
وقالوا لـ«الإمارات اليوم» إن كثيراً من ذوي التوحد يعانون تحديات في فهم الإشارات الاجتماعية، أو التعبير عن مشاعرهم بطريقة مناسبة، لافتين إلى أن التغيرات الهرمونية التي يمر بها جسم طفل التوحد في مرحلة البلوغ تؤثر في استجابة الجهاز العصبي الحسي، ما يستدعي تفهُّم احتياجاته للتمكن من احتوائه عاطفياً، كما حذّروا من أن عدم فهم التغيرات الطبيعية التي يمر بها في مرحلة البلوغ يسبب القلق لذويه.
وتفصيلاً شرح المدير التنفيذي للبرامج في مركز دبي للتوحد، الدكتور نيكولاس أورلاند، أن «فترة البلوغ تُعتبر مرحلة مفصلية في حياة ذوي اضطراب طيف التوحد، حيث تبدأ خلالها تحولات بيولوجية ونفسية واجتماعية متشابكة»، موضحاً أن «هذه التغيرات لا تقتصر على النمو الجسدي أو الهرموني فحسب، بل تمتد إلى إعادة تشكيل الإدراك الذاتي والوعي بالآخرين».
وأضاف أن «كثيرين من المراهقين ذوي التوحد يعانون من تحديات في فهم الإشارات الاجتماعية، أو التعبير عن مشاعرهم الجديدة بطريقة مناسبة، الأمر الذي قد يؤدي إلى حالات من القلق أو الانسحاب أو حتى السلوك العدواني إن لم تتم معالجتها مهنياً»، مؤكداً أن «مركز دبي للتوحد يولي اهتماماً خاصاً بالعلاج النفسي والتأهيل السلوكي خلال هذه المرحلة، لضمان توازن النمو النفسي مع التطور الجسدي».
وشدد على أهمية برامج التأهيل المهني المبكر خلال المراهقة، إذ «تساعد هذه البرامج على بناء مهارات عملية تدريجية تمهد للفرد فرص المشاركة في المجتمع مستقبلاً، لأن التعامل مع المراهقة عند ذوي التوحد لا يقتصر على الجانب العلاجي، بل يمتد نحو تعزيز الاستقلالية وتحفيز الثقة بالنفس».
وتابع أن «الاستثمار في هذه المرحلة الحساسة هو ما يحدد جودة حياة الفرد مستقبلاً، لذلك ندعو إلى تعزيز التعاون بين المؤسسات التعليمية والصحية والأسر لتبنّي خطط دعم شاملة ومستمرة، لأن المراهقة بالنسبة لذوي التوحد ليست تحدياً مؤقتاً، بل فرصة لتأسيس حياة راشدة أكثر استقراراً ونضجاً».
وحول التغيرات في هذه المرحلة عند ذوي التوحد تحديداً، قال أخصائي علم النفس الإكلينيكي بمركز دبي للتوحد، عبدالعزيز حرزالله: «تُعد فترة المراهقة من أكثر المراحل حساسية في حياة الأفراد ذوي اضطراب طيف التوحد، إذ تترافق التغيرات الجسدية والهرمونية فيها مع تحديات إدراكية وسلوكية تجعل هذه المرحلة مختلفة عن نظرائهم من غير ذوي التوحد».
وقال: «عند بدء مرحلة البلوغ يواجه العديد من الأطفال المصابين بالتوحد زيادة في التحسس الحسي تجاه الأصوات، أو اللمس أو الروائح أو حتى الملابس، ما يخلق شعوراً بالارتباك والقلق»، موضحاً أن «هذه الزيادة في الحساسية قد تكون ناتجة عن تغيرات هرمونية تؤثر في استجابات الجهاز العصبي الحسي، الأمر الذي يتطلب تدخلات علاجية نفسية وسلوكية متخصصة تساعد الطفل على تنظيم مشاعره واستيعاب ما يحدث في جسده».
وحول أهمية الوعي الجسدي، قال حرزالله: «بعضهم يواجه صعوبة في فهم التغيرات الطبيعية التي تطرأ على أجسادهم، مثل ظهور الشعر أو تغير الصوت أو الدورة الشهرية، ما قد يثير لديهم القلق أو السلوكيات الاندفاعية»، مشدداً على أهمية تقديم برامج تدريبية فردية خلال هذه المرحلة، تركز على التثقيف الجسدي والنظافة الشخصية والعناية الذاتية بطريقة مبسطة وباستخدام الوسائل البصرية والروتين اليومي، لضمان انتقال آمن وسلس نحو مرحلة البلوغ.
وتابع: «في مركز دبي للتوحد نعمل على تهيئة البيئة الداعمة التي تراعي هذه التغيرات، من خلال جلسات الإرشاد النفسي، والعلاج السلوكي، والتعاون الوثيق مع الأسر لضمان الاستمرارية في المنزل، فالمراهقة بالنسبة للأطفال ذوي التوحد ليست مجرد مرحلة نمو جسدي، بل مرحلة انتقالية تحتاج إلى رعاية متكاملة نفسياً وسلوكياً وصحياً».
وعن تجربتها مع ابنها سالم الصرايرة (16 عاماً)، قالت فاطمة الصرايرة إن التقلبات العاطفية والنفسية والمزاجية، من أبرز التحديات واجهتها، خصوصاً أن سالم ضمن المستوى الثالث من اضطراب طيف التوحد، وهو غير ناطق، لذا واجه صعوبة في التعبير تمثلت في تحديات حسية وسلوكية.
وقالت إن التحديات الحسية لدى سالم كانت واضحة بشكل أكبر خلال هذه المرحلة العمرية، لاسيما الانزعاج من الأصوات العالية، ما دفعها لتدريبه على السماعة الحسية، التي تقلل الضغط الحسي الزائد للأشخاص ذوي التوحد من خلال تقليل الضوضاء المحيطة، ما يوفر لهم بيئة أكثر هدوءاً وراحة.
وأضافت: «دربت نفسي على الهدوء، موقنة أن هذه التغيرات طبيعية، وعندما لاحظت أنني أتعامل مع نفسي بهدوء أكثر، أصبح سالم يتعامل بهدوء أكبر مقارنة بالوضع السابق»، مشددة على ضرورة احترام مشاعر الأبناء من ذوي التوحد في هذه المرحلة واحتوائهم عاطفياً.
كما أشارت إلى أهمية تخصيص وقت للأنشطة الرياضية مثل السباحة، إلى جانب اللعب التفاعلي مع أفراد الأسرة، لما لذلك من دور في تعزيز الجانب النفسي.
وشددت على ضرورة الابتعاد عن الصراخ والعصبية وتجنُّب التوتر والقلق، والحد من مشاهدة الألعاب الإلكترونية العنيفة ومراقبة استخدام الشاشات، لما لذلك من تأثيرات سلبية.
كما وجهت إلى أهمية العناية الصحية بالمراهقين من ذوي التوحُّد، من خلال التقليل من تناول السكريات، «فالعقل السليم في الجسم السليم، وهذا ما يؤثر إيجابياً في الجانب النفسي والمزاج وهرمون السعادة عبر التغذية الصحية»، كما أكدت ضرورة متابعة الفحوص الطبية والعناية بالأسنان دورياً.
من جانبها قالت إيمان إبراهيم، والدة صلاح الدين (19 عاماً)، إن التحديات الأبرز خلال هذه المرحلة تتضمن عدم فهم ذوي التوحد للتغيرات الطبيعية الخاصة بعمر المراهقة، فمع الطفل الطبيعي يمكن الحديث بشأن تلك التغيرات، أما طفل التوحد فقد تُسبب له ولأسرته قلقاً.
وقالت إن التحدي الثاني هو الرغبة في الاستقلال، التي كانت ظاهرة بعد بلوغ ابنها الخامسة عشرة، لاسيما عند اصطحابه إلى المركز التجاري، حيث لم يكن يريد الإمساك بيدها أثناء المشي، ويريد أن يشتري بنفسه الأشياء ويتعامل مع الباعة والناس من حوله، ولكن من الصعب شرح وضعه لكل الناس أو توقع تفهمهم.
أما التحدي الثالث فقالت إن التوحد لم يكن ظاهراً بوضوح في مرحلة طفولة صلاح الدين، لأنه طفل، وقد يعزو بعض الناس غرابة تصرفاته إلى الشقاوة، أما بعد أن كبر حجماً فلم يعد مقبولاً اجتماعياً رؤيته يتصرف بغرابة وسط الناس، مشيرة إلى أن ذلك قد يكون محرجاً أحياناً، خصوصاً بسبب قلة الوعي لدى البعض.
وحول دور الأسرة في تعزيز الاستقلالية في هذه المرحلة الانتقالية، قالت إنها مطالبة بمساعدته على الاستقلال، والحرص على سلامته ومنع وقوع أي مشاكل بسبب ذلك.
وتحتاج الأسرة إلى كثير من التوعية والدعم في هذه الفترة الحرجة، مع ضرورة التحلي بالهدوء والصبر وتفهُّم احتياجات الطفل وتغيراته، خصوصاً المتعلقة بالبلوغ، والتعامل معها بحكمة وتقبُّل، وتوقُع رغبته في الاستقلال ومساعدته عليه قدر المستطاع مع الحفاظ عليه، وإشراكه في نشاطات اجتماعية أو رياضية.
وأشادت بجهود مركز دبي للتوحد الذي يقدم برامج لتعزيز استقلال المراهق في طيف التوحد في جميع مناحي الحياة، خصوصاً تلك المتعلقة بالنظافة الشخصية والنشاطات اليومية، كترتيب الغرفة وتنظيم الأغراض وارتداء الملابس والتنظيف البسيط وابتياع احتياجات البقالة وعبور الطريق.
أما بشرى لاري، والدة ماريا أشكناني (11 عاماً)، فأكدت ضرورة بقاء أولياء الأمور على اطلاع دائم مع المراهقين من ذوي التوحد لفهم مشاعرهم وما يمرون به، مشيرة إلى أنها تواجه بعض الصعوبة في أخذ الكلام من ابنتها، لكنها تحاول فهم ما تمر به ومساعدتها.
وتابعت: «نواجه صعوبة في شرح كيفية العناية بنفسها في هذه المرحلة، حيث يجب أن أقوم بكل المهام حتى أتأكد من محافظتها على نظافتها الشخصية أثناء فترة المراهقة».
وقالت إن ماريا تظهر تغييرات هرمونية وتقلبات مزاجية مفاجئة مثل البكاء المستمر الذي ليس له سبب واضح، أو الذي قد يكون له سبب بسيط.
وأضافت: «نحن نتعامل مع أخصائية تعطي ماريا جلسات علاجية يومياً، وبسبب التعاون بيننا وبين المعالجة نستطيع التغلب على التحديات، وعندما أواجه صعوبة في أمر خاص بها أتحدث مع الأخصائية ونعمل معاً لحل السلوك غير المرغوب به أو السلوك الذي لم أستطع إدراكه».
وحول أهمية احترام الخصوصية في هذه المرحلة العمرية، قالت إن أفراد الأسرة يحترمون خصوصية ماريا بشكل كبير، فهي أحياناً تذهب إلى غرفتها وتطلب تركها وحدها لأنها بحاجة إلى وقت خاص بها، مع متابعتها من بعيد واحترام مساحتها الشخصية.
وأضافت: «أحترم خصوصيتها عندما يكون جهازها اللوحي بحوزتها ولا أراقبها، ولكن بعد أن تنام أحرص على الاطلاع على الجهاز تفادياً للتنمر الإلكتروني وحماية لها».
