تواجه تقنيات الذكاء الاصطناعي تحديًا كبيرًا يتمثل في فهم السلوك البشري والتنبؤ به، وهو أمر أساسي في مجالات كثيرة، مثل: السيارات الذاتية القيادة التي تحاول تحديد كون أحد المشاة سيعبر الطريق أم لا، أو خوارزمية استثمارية تحاول توقع رد فعل المستثمرين قبل اتخاذ قرار تداول.
لم تُصمم نماذج الذكاء الاصطناعي المتوفرة حاليًا، مثل GPT و Llama، لهذا الغرض. لذلك بدأ باحثون بتطوير نموذج مصمم خصوصًا للتنبؤ بالسلوك البشري لاستخدامه في مجالات تتطلب تحليل السلوك البشري لاتخاذ قرارات مهمة.
نموذج Be.FM للتنبؤ بالسلوك البشري
طوّر باحثون من جامعة ميشيغان وجامعة ستانفورد وشركة MobLab نموذجًا جديدًا أطلقوا عليه اسم Be.FM (اختصارًا لـ Behavioral Foundation Model)، وهو من نماذج الذكاء الاصطناعي الأولى المصممة خصوصًا للتنبؤ بالسلوك البشري وتحليله ومحاكاته.
وبعكس النماذج التي تعتمد على نصوص عامة مثل تلك المتوفرة في ويكيبيديا، يعتمد Be.FM على بيانات سلوكية متخصصة مستمدة من تجارب علمية واستبيانات، ودراسات أكاديمية، تضم أكثر من 68 ألف مشارك في تجارب علمية وقرابة 20 ألف مستجيب للاستبيانات، إضافة إلى آلاف من الدراسات المنشورة في مجلات مختلفة.
وتقول الباحثة الرئيسية في الدراسة، Yutong Xie: “نحن لا نزود النموذج بمعلومات عامة، بل نبني قاعدة بيانات تساعده في فهم أسباب تصرف الناس بطريقة معينة”.
هذا النهج يمنح Be.FM قدرة أعلى على قراءة الإشارات الاجتماعية المعقدة وفهم السلوكيات الأقل شيوعًا، وهي نقاط ضعف معروفة في النماذج العامة.
وخلال اختبار النموذج ضمن دراسة خاصة، أظهر Be.FM قدرات ناشئة لم يُدرّب عليها مباشرة، وتضمنت أربعة مجالات أساسية، هي:
1. التنبؤ بالسلوك البشري في مواقف الحياة الواقعية
أبرز نقاط قوة Be.FM هي قدرته على التنبؤ بتصرفات البشر في مواقف الحياة الواقعية. على سبيل المثال: في سيناريو يعرض فيه مصرفي عدة خيارات استثمارية على مجموعة من الأشخاص، يمكن لنموذج Be.FM التنبؤ بالخيار الذي سيختاره معظم الناس، وكم منهم سيتعاون أو سيخاطر.
هذا النوع من التنبؤات السلوكية قد يدعم النمذجة الاقتصادية، واختبار المنتجات، وتحليل السياسات العامة، من خلال محاكاة سلوك المجموعات قبل تنفيذ تجارب ميدانية مكلفة.
2. استنتاج السمات النفسية والخصائص الديموغرافية
يمكن لنموذج Be.FM استنتاج السمات النفسية والمعلومات الديموغرافية استنادًا إلى السلوكيات أو مجموعة من البيانات الأساسية. على سبيل المثال: يستطيع النموذج تقدير كون الشخص منفتحًا اجتماعيًا أو متسامحًا بناءً على عمره وجنسه وبيانات ديموغرافية أخرى، أو حتى تقدير عمر الشخص بناءً على سماته الشخصية. وهذا يفتح المجال أمام تصميم منتجات موجهة بدقة لفئة معينة، وتقديم تدخلات شخصية فعالة.
3. فهم تأثير العوامل السياقية والظروف المحيطة
يتغير السلوك البشري غالبًا استجابةً لتغييرات في التوقيت أو الأعراف الاجتماعية أو الإشارات البيئية، ويمكن لنموذج Be.FM كشف هذه العوامل وتحليلها.
على سبيل المثال: إذا تغير سلوك مستخدمي تطبيق ما بين شهري يناير وفبراير، يمكن للنموذج تحديد كون السبب في ذلك يعود إلى تحديث في التصميم، أو تغير موسمي، أو اختلاف طريقة عرض المعلومات.
من خلال تحليل الأنماط في سيناريوهات مختلفة، يمكن للنموذج تقديم رؤى حول الإشارات البيئية التي تشكل عملية اتخاذ القرار، وهو ما يجعله أداة قيمة للباحثين والمصممين وواضعي السياسات.
4. دعم الأبحاث وتنظيم المعرفة السلوكية
بفضل بنيته المعتمدة على النماذج اللغوية الكبيرة، يستطيع Be.FM تلخيص الدراسات العلمية، واقتراح أفكار بحثية جديدة، وحل مشكلات معقدة في الاقتصاد السلوكي، وحتى محاكاة سيناريوهات بحثية قبل اختبارها ميدانيًا.
القيود والآفاق المستقبلية
أظهرت الاختبارات أن Be.FM يتفوق على نماذج مثل GPT4o و Llama في محاكاة السلوك البشري، خصوصًا في التنبؤ بالسمات الشخصية ومحاكاة المواقف الاجتماعية. ومع ذلك، يقر الباحثون بأن للنموذج حدودًا واضحة، فلم يتم اختباره بَعد في مجالات مثل التنبؤ بالأحداث السياسية الكبرى أو نتائج الانتخابات.
ويقول (Qiaozhu Mei)، أستاذ علوم المعلومات في جامعة ميشيغان والمؤلف المشارك للدراسة: “نهدف إلى توسيع نطاق Be.FM ليشمل مجالات مثل الصحة والتعليم والسياسة، بمعنى أن يكون مفيدًا في أي مجال يتخذ فيه البشر قرارات مهمة”.