في ظل التحديات المتصاعدة لشحّ المياه والتغيرات المناخية، تواجه المملكة العربية السعودية، كغيرها من دول المنطقة، تحديات ضخمة في تأمين مصادر مائية مستدامة لعدد سكانها المتنامي واحتياجات مشاريعها التنموية الطموحة، خاصة مع نضوب المياه الجوفية والاعتماد الكبير على تحلية مياه البحر الكثيفة الاستهلاك للطاقة.
ومن هذا المنطلق، تبرز جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) كمركز ريادي للبحوث والتطوير، مقدمة تقنيات متقدمة تَعد بإحداث ثورة في استدامة المياه في المملكة، إذ تقدم حلولًا لا تكتفي بتحسين الكفاءة فحسب، بل تُعيد تعريف منظومة المياه بالكامل عبر ثلاثة محاور أساسية، تشمل: تطوير مفاعلات حيوية تعمل بالطاقة الشمسية لمعالجة مياه الصرف دون انبعاثات، وتطوير أنظمة تحلية لمياه البحر تمتاز بأنها منخفضة الاستهلاك للطاقة، بالإضافة إلى استخدام الذكاء الاصطناعي لمراقبة الجودة.
ولا تعالج هذه التقنيات المبتكرة تحدي الاعتماد الكبير على التحلية التقليدية وحسب، بل توفر حلولًا مدمجة وفعالة يمكن تطبيقها في المناطق النائية، مما يدعم بنحو مباشر مبادرة السعودية الخضراء.
لذلك سيسلط هذا التقرير الضوء على أبرز إسهامات كاوست، التي ترسم ملامح مستقبل مائي أكثر أمنًا واستدامة في السعودية:
إعادة تدوير مياه الصرف الصحي.. حلول لا مركزية ومحايدة للطاقة:
تشير التقديرات إلى أن استغلال مياه الصرف الصحي الناتجة عن سكان المملكة البالغ عددهم 34.3 مليون نسمة، يمكن أن ينتج ما يقرب من 9 ملايين متر مكعب من المياه المعالجة يوميًا، ولمعالجة هذه الكمية الضخمة بكفاءة واستدامة، يقود فريق البروفيسورة (بيينج هونج) في كاوست مشروعًا رائدًا يُسمى المفاعل الحيوي الغشائي اللاهوائي (Anaerobic Membrane Bioreacto).
ويعمل هذا المفاعل التجريبي منذ ثلاث سنوات في المدينة الصناعية في جدة التابعة للهيئة السعودية للمدن الصناعية ومناطق التقنية (مدن)، ويعالج 50 ألف لتر من مياه الصرف يوميًا – أي ما يعادل ما ينتجه مجتمع يضم 200 شخص – بتكلفة طاقة معدومة.
ويُعدّ هذا المشروع هو ثمرة سنوات من البحث لتطوير تقنية تعالج المياه المعاد تدويرها وتقلل من أخطار الملوثات، ويعمل المفاعل كمنشأة لا مركزية على مدار الساعة خارج شبكة الكهرباء، مما يجعله الحل الأمثل للمجتمعات النائية.
وتستمد المحطة طاقتها من مياه الصرف وأشعة الشمس مع تخزين الفائض، كما أنها تنتج مخلفات صلبة أقل بنحو 20 مرة مقارنة بالأنظمة التقليدية، وتحتفظ المياه المعالجة بعناصر مغذية قيّمة مثل: الأمونيوم والفوسفات، ومن ثم يمكن إعادة استخدامها كأسمدة سائلة للزراعة، محققة بذلك مبدأ الاقتصاد الدائري للموارد.
وبعد إثبات نجاح التقنية على المستوى التجريبي، طورت البروفيسورة هونج وفريقها نظام مراقبة مستمر يعتمد على الذكاء الاصطناعي، لضمان إمكانية استخدام المياه المعاد تدويرها بأمان في الزراعة وإنتاج الغذاء، مما يدعم مبادرة السعودية الخضراء.
تحلية المياه بالطاقة المتجددة لتقليل التكلفة:
تعتمد المملكة العربية السعودية بنحو كبير على تحلية مياه البحر لتلبية احتياجاتها، ولكن هذه العملية تستهلك تقليديًا كميات كبيرة من الطاقة، معظمها من مصادر أحفورية، ولمواجهة هذا التحدي، يقود البروفيسور نور الدين غفور في كاوست فريقًا بحثيًا لتطوير جيل جديد من تقنيات التحلية المنخفضة الاستهلاك للطاقة.
التقطير الغشائي المعزز بالطاقة الشمسية:
لقد طوّر فريق البروفيسور غفور عملية مبتكرة تدمج الطاقة المتجددة في أنظمة تحلية مصممة خصوصًا لتحقيق أدنى مستويات استهلاك الطاقة.
ويركّز مشروع البروفيسور غفور بالتحديد في إدماج الطاقة الشمسية في عملية التقطير الغشائي، وهي تقنية تعمل في ظروف قريبة من الحرارة والضغط المحيطين، مما يقلل الحاجة إلى الطاقة الحرارية ويستهلك مقدارًا ضئيلًا من الكهرباء لضخ المياه. ويجري الآن اختبار هذه التقنية بنجاح في محطة تجريبية في كاوست.
وعلى عكس التناضح العكسي الذي يتطلب ضغطًا عاليًا مع زيادة الملوحة، فإن هذه العملية أقل تأثرًا بالملوحة، مما يتيح إعادة تدوير المياه بكفاءة عالية، ويقلل من حجم المحلول الملحي المترسب. كما يجعلها تصميمها المعياري ميسورة التكلفة ومناسبة للمناطق النائية أو المتضررة من الكوارث، إذ تقلل من استهلاك الكهرباء والمواد الكيميائية.
استخدام الذكاء الاصطناعي لضمان جودة المياه واستدامة التشغيل:
لم تتوقف ابتكارات كاوست عند حدود معالجة المياه وتحليتها، بل امتدت إلى استخدام الذكاء الاصطناعي لضمان جودة عمليات معالجة المياه وكفاءتها.
ولتجاوز تحديات المراقبة التقليدية، تستخدم البروفيسورة هونج وفريقها الذكاء الاصطناعي لتحسين رصد الملوثات الميكروبية، فقد طوروا جهاز استشعار حاسوبي يعتمد على الشبكات العصبية لرصد وجود الخلايا البكتيرية والفيروسية في المياه لحظيًا، دون الحاجة إلى مختبرات أو أجهزة تحليل مكلفة.
ويهدف المستشعر إلى توفير قياسات تنبئية دقيقة لكثافة الكائنات الدقيقة في المياه بالاعتماد على بيانات فيزيائية أو كيميائية، مما يعزز الأمان في تطبيقات الزراعة والمياه المعاد تدويرها.
وفي ميدان تحلية مياه البحر، يستخدم فريق البروفيسور غفور الذكاء الاصطناعي لمعالجة مشكلة التلوث الحيوي لأغشية التحلية في مشروع مع شركة أكوا باور السعودية.
فقد ركب الفريق جهاز ذكي غير تدخلي في محطة تجريبية للتناضح العكسي تابعة للشركة يحتوي على نموذج ذكي وكاميرا لمراقبة سطح الغشاء ورصد تراكم الترسبات، ويمكن للجهاز التنبؤ بالمشكلات قبل حدوثها، مما يساهم في تجنب توقف الخدمة وتقليل تكاليف عمليات التنظيف والصيانة الضخمة.
الرؤية المستقبلية لاستخدام المياه:
يتفق الباحثان هونج وغفور، على أن الهدف الرئيس هو تقليل الاعتماد على مياه التحلية وحصر استخدامها أساسًا للشرب، فيما تُخصّص المياه المعاد تدويرها أو المحلاة جزئيًا للزراعة والمشاريع الخضراء، بما يحقق الاستخدام الأمثل للمياه عبر القطاعات المختلفة ويدعم مبادرة السعودية الخضراء.
وبهذه الرؤية، لا تكتفي كاوست بتقديم حلول تقنية، بل تعيد صياغة مفهوم الأمن المائي في السعودية، وتحوّله من معادلة استهلاك إلى دورة إنتاج مستدامة للطاقة والمياه والغذاء.
ومن ثم؛ تمثل الابتكارات التي تقدمها (كاوست) برنامجًا وطنيًا للتحصين ضد تحدي المياه، إذ تضع المملكة في موقع ريادي عالميًا في مجال التقنيات المائية المستدامة، فمن خلال الجمع بين المحاور الثلاثة وهي: إعادة تدوير المياه بتكلفة طاقة معدومة، وتحلية مياه البحر باستخدام أنظمة منخفضة الاستهلاك للطاقة، واستخدام الذكاء الاصطناعي لمراقبة الجودة، تُحقق كاوست نقلة نوعية من مجرد استهلاك المياه إلى إعادة هندسة مصدرها واستدامتها.
وتُعدّ هذه الثورة التقنية هي مفتاح المملكة لتحقيق الأمان المائي، وتقليل بصمتها الكربونية، وتحقيق طموحاتها في مجالات الزراعة المستدامة والمشاريع الخضراء ضمن مسار رؤية 2030.
									 
					