“DeepSeek”.. كيف أحدثت شركة الذكاء الاصطناعي الصينية الناشئة صدمة في وادي السيليكون؟
في مشهد التنافس التكنولوجي المتصاعد بين الصين والولايات المتحدة، برزت شركة (DeepSeek) الصينية الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي لتذهل العالم بكشفها عن تفاصيل نموذجها اللغوي الكبير (R1)، الذي يضاهي نموذج (o1) المتطور، الذي أطلقته شركة (OpenAI) رسميًا في شهر ديسمبر الماضي، والذي يأخذ بعض الوقت في التفكير والتحليل والمقارنة والتقييم قبل توليد الإجابات.
وقد حوّلت هذه الخطوة مؤسس الشركة، ليانج ونفينج، من مدير صندوق تحوط منعزل إلى رمز وطني يجسد طموحات الصين في مجال التكنولوجيا المتقدمة، كما أثارت نقاشات حادة في وادي السيليكون حول قدرة الشركات الأمريكية العملاقة على الحفاظ على تفوقها في هذا المجال الحيوي.
ولكن كيف تمكنت شركة صينية ناشئة من الوصول إلى هذه المرحلة في مجال الذكاء الاصطناعي في ظل العقوبات الأمريكية؟
نموذج R1.. إنجاز تقني بميزانية محدودة:
أطلقت شركة (DeepSeek) الصينية يوم الاثنين الماضي نموذجها اللغوي الكبير (R1)، مصحوبًا بنشر ورقة بحثية مفصلة، ولم تكتفِ الورقة بإعلان مزايا النموذج، بل قدمت شرحًا وافيًا ومنهجيًا لكيفية بناء نموذج لغوي كبير عالي الكفاءة، حتى في ظل محدودية الموارد والميزانية، والأهم من ذلك، كشفت الورقة عن قدرة نموذج (R1) الفريدة على التعلم الذاتي والتطور المستمر دون الحاجة إلى تدخل بشري مباشر أو إشراف خارجي، مما يمثل قفزة نوعية في مجال تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي القادرة على التفكير.
وتجدر الإشارة إلى أن تطوير ما يُعرف باسم (نماذج التفكير) Reasoning Models؛ يُعدّ من المجالات الحديثة نسبيًا في أبحاث الذكاء الاصطناعي، إذ تسعى الشركات إلى تصميم نماذج قادرة على محاكاة القدرات المعرفية البشرية المعقدة، وقد تصدرت شركات أمريكية، مثل: OpenAI، وجوجل ديب مايند هذا المجال.
فخلال شهر ديسمبر الماضي، أطلقت شركة OpenAI الإصدار النهائي من نموذجها (o1) – وذلك بعد انتهاء مدة المعاينة التجريبية التي بدأت في سبتمبر 2024.
كما أطلقت جوجل خلال شهر ديسمبر الماضي نموذج (Gemini 2.0)، المصمم لعصر جديد قائم على الوكلاء، فبدلًا من تقديم استجابات مباشرة للمستخدمين، يمكن لوكلاء الذكاء الاصطناعي فهم السياق بنحو أعمق، والتخطيط لسلسلة من الإجراءات، وحتى اتخاذ قرارات محددة نيابة عن المستخدم.
لذلك يُعدّ إطلاق شركة (DeepSeek) لنموذج (R1) وتفاصيل تطويره تحديًا مباشرًا لهذه الشركات الأمريكية العملاقة، التي احتفظت بسرية أساليبها التقنية ومنهجيات التطوير المستخدمة في نماذجها المماثلة.
DeepSeek.. صدمة في وادي السيليكون وفخر وطني في الصين:
سرعان ما أثار إطلاق نموذج (R1) الصيني جدلًا واسعًا ونقاشات حادة في وادي السيليكون حول قدرة الشركات الأمريكية العملاقة في مجال الذكاء الاصطناعي، مثل: ميتا و(أنثروبيك) Anthropic، على الحفاظ على تفوقها التقني في مواجهة هذا التطور الصيني المفاجئ.
وعلى الصعيد الوطني في الصين، اكتسب ليانج ونفينج، مؤسس DeepSeek، مكانة مرموقة كرمز للفخر الوطني، وقد تجلى ذلك في اختياره الأسبوع الماضي لحضور اجتماع رسمي رفيع المستوى مع لي تشيانج، الذي يُعدّ ثاني أقوى مسؤول في الصين، ولم يكن ليانج مجرد حاضر في هذا الاجتماع، بل كان الشخصية الوحيدة الممثلة لمجال الذكاء الاصطناعي.
وخلال هذا الاجتماع، وُجهت دعوة صريحة لرواد الأعمال الحاضرين، تحثهم على “تركيز الجهود لتحقيق إنجازات حاسمة في التقنيات الرئيسية”، مما يشير إلى الأهمية الإستراتيجية التي توليها الحكومة الصينية لتطوير هذا المجال.
ولكن كيف تمكنت (DeepSeek) من تحقيق هذا التطور المهم في مجال الذكاء الاصطناعي؟
عند إجراء تحليل لتطور شركة (DeepSeek) في مجال الذكاء الاصطناعي، يظهر مسار مؤسسها، ليانج ونفينج، كعامل حاسم في نجاحها، ففي عام 2021، بينما كان ليانج يدير صندوقه للتداول الكمي الذي يُسمى (HighFlyer)، بدأ فجأة بشراء الآلاف من وحدات معالجة الرسومات من شركة (إنفيديا) Nvidia، لمشروعه الجانبي في مجال الذكاء الاصطناعي، ولم يأخذه أحد على محمل الجد آنذاك، إذ وجد المراقبون في الصناعة ما قام به مجرد تصرفات غريبة لملياردير يبحث عن هواية جديدة.
وقد قدم أحد شركاء ليانج التجاريين صورة عن اللقاءات الأولى معه لصحيفة فايننشال تايمز، قائلًا: “عندما التقينا ليانج أول مرة، كان رجلًا غريب الأطوار ذو تسريحة شعر مريبة، يتحدث عن مشروع بالغ الطموح، وهو إنشاء بنية تحتية حاسوبية ضخمة تضم 10 آلاف شريحة مخصصة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة به، وقد بدا هذا الطموح حينها ضربًا من الخيال، لذلك لم نأخذه على محمل الجد”.
وأضاف الشريك قائلًا: “لم يستطع ليانج التعبير عن رؤيته بوضوح سوى بقوله أريد بناء هذا المشروع، وسيكون تغييرًا كبيرًا. وكنا نعتقد أن هذا النوع من المشاريع الضخمة لا يمكن أن يتحقق إلا على يد كيانات عملاقة مثل: ByteDance و Alibaba، التي تمتلك الموارد المالية والبشرية اللازمة لذلك”.
ومع ذلك، تحوّل هذا الوضع الغريب ليانج في مجال الذكاء الاصطناعي إلى نقطة قوة غير متوقعة، فمن خلال صندوق التداول (HighFlyer)، بنى ليانغ ثروة طائلة من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي والخوارزميات المعقدة لتحديد الأنماط التي قد تؤثر في أسعار الأسهم، واكتسب فريقه خبرة واسعة في استخدام شرائح إنفيديا لتحقيق أرباح من تداول الأسهم، وقد انتقل هذا الفريق معه لاحقًا إلى شركة (DeepSeek)، مما منحه ميزة تنافسية.
فقد أطلق ليانج شركة (DeepSeek) في عام 2023، معلنًا طموحه في تطوير نماذج ذكاء اصطناعي تضاهي القدرات البشرية.
وعلق أحد المؤسسين في شركة منافسة في مجال النماذج اللغوية الكبيرة قائلًا: “لقد بنى ليانج فريقًا استثنائيًا للبنية التحتية يفهم حقًا كيفية عمل الرقاقات، وجلب معه أفضل الكفاءات من صندوق التداول إلى DeepSeek”.
وبعد أن فرضت واشنطن حظرًا على تصدير إنفيديا لأقوى شرائحها إلى الصين، اضطرت شركات الذكاء الاصطناعي المحلية إلى إيجاد حلول مبتكرة لتعظيم قوة الحوسبة لعدد محدود من الرقاقات المتاحة، وهي مشكلة كان فريق ليانج مستعدًا تمامًا لمواجهتها.
ويؤكد أحد الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي المقربين من الشركة ذلك، قائلًا: “يعرف مهندسو (DeepSeek) كيفية إطلاق العنان لإمكانات وحدات معالجة الرسومات من إنفيديا، حتى لو لم تكن من أحدث التقنيات”.
بيئة بحثية فريدة ورواتب مغرية:
يشير المطلعون في الصناعة إلى أن تركيز شركة (DeepSeek) الفريد على البحث العلمي يجعلها منافسًا قويًا، نظرًا إلى استعدادها لمشاركة اكتشافاتها بدلًا من حمايتها لتحقيق مكاسب تجارية، ولم تجمع الشركة حتى الآن تمويلًا من صناديق خارجية ولم تتخذ خطوات جادة لتحقيق الدخل من نماذجها.
وقد وصف أحد المستثمرين في مجال الذكاء الاصطناعي في بكين شركة (DeepSeek) بأنها تشبه كثيرًا شركة جوجل ديب مايند في أيامها الأولى لأنها تُدار بروح مشابهة، إذ يركز الفريق بنحو كامل في البحث والهندسة.
يستخدم ليانج – الذي يشارك شخصيًا في أبحاث (DeepSeek) – عائدات صندوق التدوال الخاص به لدفع رواتب عالية لجذب أفضل المواهب في مجال الذكاء الاصطناعي، مما جعل شركة (DeepSeek)، وشركة (ByteDance) – المالكة لتطبيق تيك توك – من بين الشركات التي تقدم أعلى الأجور لمهندسي الذكاء الاصطناعي في الصين.
ويُوصف مناخ العمل في شركة (DeepSeek) بأنه يشبه حرمًا جامعيًا للباحثين الجادين، إذ يؤمن الفريق برؤية ليانج في إظهار للعالم أن الصينيين يمكن أن يكونوا مبدعين ويبنون شيئًا من الصفر.
DeepSeek.. هوية صينية خالصة ونتائج مبهرة
تفتخر شركة (DeepSeek) بهويتها الصينية الخالصة، فقد أسسها ليانج ككيان محلي بامتياز، معتمدًا على خريجي الدكتوراه من أرقى الجامعات الصينية، مثل: جامعات بكين وتشينخوا وبيهانج، بدلًا من استقطاب خبراء من مؤسسات أمريكية.
وفي مقابلة صحفية محلية العام الماضي، صرّح ليانج بأن فريقه الأساسي لم يضمّ أفرادًا عادوا من الخارج، جميعهم حاصلين على شهاداتهم من الصين، لأنه يجب علينا تطوير أفضل المواهب بأنفسنا. وقد لاقت هذه الهوية، كشركة نماذج لغوية كبيرة صينية خالصة، استحسانًا واسعًا في الأوساط المحلية.
وحققت الشركة نتائج مبهرة باستخدام موارد محدودة، إذ زعمت أنها استخدمت 2048 وحدة معالجة رسومات من نوع (Nvidia H800) فقط، واستثمرت 5.6 ملايين دولار لتدريب نموذج لغوي ضخم يضم 671 مليار مُعلمة، وهو جزء بسيط جدًا مما أنفقته شركات عملاقة مثل: OpenAI وجوجل لتدريب نماذج مماثلة من حيث الحجم.
وأكد ريتويك جوبتا، الباحث في سياسات الذكاء الاصطناعي في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، في تحليله للديناميكية التنافسية في مجال الذكاء الاصطناعي، أن قدرات الذكاء الاصطناعي ليست حكرًا على أحد، وأن الميزة لا تكمن في السبق الزمني بقدر ما تكمن في القدرة على التعلّم والتطوير بكفاءة.
وأضاف جوبتا؛ بُعدًا آخر لهذه المنافسة، مُشيرًا إلى أن الصين تتمتع بميزة تنافسية مهمة تتمثل في امتلاك قاعدة مواهب أوسع بكثير في مجال هندسة الأنظمة مقارنة بالولايات المتحدة، كما يتمتع المهندسون الصينيون بفهم عميق لكيفية الاستخدام الأمثل لموارد الحوسبة لتدريب النماذج وتشغيلها بكفاءة عالية وبتكلفة أقل.
تحديات المستقبل ومنافسة شرسة:
يشير الخبراء في المجال إلى أن شركة (DeepSeek) قد حققت نتائج مبهرة بموارد محدودة، ومع ذلك لا تزال قدرتها على الحفاظ على زخمها التنافسي على المدى الطويل موضع تساؤل، فمع التطور السريع للصناعة، تواجه الشركة تحديات متعددة، تشمل: المنافسة التقنية الشرسة من الشركات الأمريكية العملاقة، والتحديات الاقتصادية المتعلقة بتمويل الأبحاث والتطوير.
فقد كثفت الشركات الأمريكية استثماراتها لبناء مجموعات حاسوبية ضخمة تعتمد على الجيل التالي من شرائح (Blackwell) من إنفيديا، وتُعدّ هذه المجموعات قفزة نوعية في قوة الحوسبة، مما ينذر بفجوة تقنية جديدة قد تصعّب على المنافسين الصينيين مواكبة التطورات.
ويتجلى حجم هذه الاستثمارات في إعلان الرئيس الأمريكي ترامب الأسبوع الماضي مشروع (Stargate)، وهو مبادرة ضخمة تهدف إلى إنشاء بنية تحتية للذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة بقيمة قدرها 500 مليار دولار بشراكة بين OpenAI وأوراكل وشركة الاستثمار اليابانية (سوفت بانك)، وجهات أخرى.
كما تعمل شركة (xAI) التابعة لإيلون ماسك على توسيع حاسوبها العملاق (Colossus) ليضم أكثر من مليون وحدة معالجة رسومات، بهدف تدريب نموذج (Grok).
الخلاصة:
تمثل قصة شركة (DeepSeek) مثالًا ملهمًا على الإبداع الصيني في مجال الذكاء الاصطناعي، وتشير إلى إمكانية ظهور منافس قوي للهيمنة الأمريكية في هذا المجال الحيوي، ويُعدّ نجاح الشركة دليلًا على أن الابتكار والإصرار والتخطيط الجيد يمكن أن يحقق نتائج مبهرة حتى في ظل محدودية الموارد، ولكن التحدي الحقيقي يكمن في الحفاظ على القدرة التنافسية في ظل التطورات السريعة والاستثمارات الضخمة التي يقوم بها المنافسون.